كل ذلك لا يدع عندنا مجالاً للشك في أن عبد القاهر صاحب الفن وممهد قواعده ومهذب مسائله. لكن ابن خلدون هذا الألمعي النابغة برأي في مقدمته أضل بعض الكاتبين بعده، وهو رأي ذو خطر لأنه يسلب الإمام الجرجاني كل أثر في وضع هذه العلوم قال:(وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان، وهو اسم الصنف الثاني، لأن الأقدمين أول من تكلموا فيه، ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى، وكتب جعفر ابن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها، ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئاً فشيئاً إلى أن فحص السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفاً من الترتيب، وألف كتابه المفتاح في النحو والصرف والتعريف والبيان).
ولننظر أولاً فيما فعله السكاكي حتى نكون على بينة. نظر فيما كتبه المتقدمون فوجد أبحاثاً في النظم في النظم والتشبيه والاستعارة وغيرها من مباحث الفن، ولكنها لا ترجع إلى ضوابط وقوانين، فكان كل همه أن يقعّد هذه المسائل ويخترع لها الاصطلاحات العلمية، وهذا المسلك واضح كل الوضوح في عمل السكاكي وفي قوله، فهو فيما نقلنا آنفاً يقول:(وتوفية كل ذلك حقه على موجب مقتضى الصناعة). ويقول في موضع آخر:(ثم ما لهذا العلم من الشرف الظاهر، والفضل الباهر، لا ترى علماً لقي من الضيم ما لقي، ولا مني من سوم الخسف بما مني، أين الذي مهد له قواعد ورتب له شواهد، وبين له حدوداً يرجع إليها، وعين له رسوماً يعرج عليها، ووضع له أصولاً وقوانين، وجمع له حججاً وبراهين وشمر لضبط متفرقاته ذيله، واستنهض في استخلاصها من الأيدي رجله وخيله).
ومع أن صدر هذا الكلام متابعة للإمام عبد القاهر في حديثه عن الضيم الذي لحق هذه العلوم - ولا يزال يلحقها إلى عصرنا هذا - إلا أن آخره يدلنا على النهج الذي سلكه السكاكي. وقد تدهش حين تسأل السكاكي ما هي هذه المتفرقات التي لم يشمر لها أحد ذيله؟ فيجيبك بأنها علم أصول الفقه، وعلم الحد، وعلم الاستدلال. وفي ذلك يقول:(علم تراه أيادي سبا، فجزء حوته الدهور، وجزء حوته الصبا، انظر باب التحديد - فإنه جزء منه - في أيدي من هو؟ بل تصفح معظم أبواب أصول الفقه من أي علم هي؟ ومن يتولاها؟).
ولا عجب، فهو يتحدث في كتابه عن تكملة علم المعاني، فيذكر باب الحد وباب الاستدلال، وفي ذلك يقول (الكلام إلى تكملة علم المعاني وهي تتبع خواص تراكيب الكلام في