الاستدلال. ولولا كمال الحاجة إلى هذا الجزء من علم المعاني، وعظم الانتفاع به لما اقتضاها الرأي أن نرخي عنان القلم فيه. اعلم أن الكلام في الاستدلال يستدعي تقديم الكلام في الحد) ولكنه يشعر أن صاحب علم المعاني لا حاجة به إلى هذا المنطق، وأنه لن يتقبل كلامه بالقبول فيقول (وكأني بكلامي هذا - وأين أنت من تحققه؟ - أعالج من تصديقك به، ويقينك لديه باباً مقفلاً، لا يهجس في ضميرك سوى هاجس دبيبه، فعل النفس اليقظى إذا أحست بنبأ من وراء حجاب). ونخلص من كل هذا إلى أن السكاكي رأى علوم البلاغة غير مضبوطة فضبطها ومتفرقة - في نظره - فجمعها، وإن كان لم يلحق بكتابه علم أصول الفقه، والنظرة الفاحصة تدلنا على أن ابن خلدون لم يرد برأيه أن يعطي السكاكي أكثر من هذا، فإنه أجمل القول في أول الفصل، وتحدث عن رءوس مسائل علوم البلاغة ثم قال: -
(وترتيب الأبواب على ما ذكرته آنفاً) وهو إنما تحدث عن تمييز هذه العلوم وضبطها، وحينئذ تسقط حجة الذين يستدلون برأي ابن خلدون، فلا وجه له، ولا حجة فيه غير ما ذكرنا، لكنهم يقولون إن إهماله لعبد القاهر يدل على أنه لا يراه واضعاً لعلوم البلاغة وإلا لذكره مع أصحابه. وهل يراه دون جعفر وقدامة والجاحظ في أمر هذا الفن؟ وللإجابة عن هذا افترض أن ابن خلدون لم يطلع على جهود عبد القاهر في علم البيان والمعاني ويؤكد هذا الافتراض عندي أمور: -
١ - أن كثيراً من أصحاب التراجم لم يترجموا له؛ فابن خلكان لم يذكره في كتابه (وفيات الأعيان) وياقوت لم يترجم له في معجم الأدباء مع أنه ترجم لنكرات كثيرة، بل لم يذكره في كتابه إلا عرضاً عندما ترجم لمحمد بن الحسين الفارسي فقال (ثم استوطن جرجان وقرأ عليه أهلها منهم عبد القاهر وليس له أستاذاً سواه). وكذلك لم يذكره في معجم البلدان مع أنه نزل جرجان وذكر جماعة من جلة علمائها.
٢ - والذين ترجموا له كالحافظ الذهبي في تاريخه (دول الإسلام) وكالسبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) وكصاحب (شذرات الذهب) وصاحب (فوات الوفيات) والسيوطي في (بغية الوعاة) لم يذكروا أنه واضع هذه العلوم، بل لم يذكروا كتابيه في البلاغة، ولم يشيروا إلى شيء فيهما.