مختلف الأساطير والقصص يخرج بأنهم لم يفهموه، وأنهم اعتبروه مجنونا فقط؛ وقد جرى رأيهم فيه مجرى الحقيقة، ولكن توجد ثمة شواهد واضحة على أن هذا الأمير الذي هو أعجب من أنجبت أسرته، كان أشدهم إثارة للأساطير من حوله، وأن حجابا كثيفا قد أسبغ على صورته فلا نستطيع أن نظفر منها إلا بلمحات)
والآن ماذا نستطيع أن نقول في قوانين الحاكم وتصرفاته؟ وكيف ننظر إليها؟ هل كان في مجموعها فورات مجنون ونزعات مخبول كما تصورها معظم الروايات الإسلامية؟ إن كثيراً من هذه القوانين والأحكام يحمل طابع القسوة والإغراق، ولكن من التحامل والظلم إن نصفها بالسخف المطبق، وان ننعت صاحبها بالجنون ولقد ظلم التاريخ الحاكم كما ظلم كثيراً من الطغاة المصلحين؛ وقد كان الحاكم طاغيا، ولكن مصلحا على طريقته، وكان يرمي بما يصدر من القوانين والأحكام إلى تحقيق غايات معينة، دينية وسياسية واجتماعية، ربما خفيت على الكافة، لأنها تتعلق بسياسة الدولة العليا؛ ومن ثم كان الريب في حكمتها والسخط عليها؛ وكانت القسوة في تطبيقها
فأما معاملة الذميين: أعنى اليهود والنصارى، وما صدر في شأنها من الأوامر والأحكام المشدودة، فلم تكن بدعة في ذاتها ولم تكن حدثاً جديدا في الخلافة الإسلامية؛ ولم يكن فيها من الجديد سوى روحها ووسائلها الشديدة التي جعلت منها نوعا من الاضطهاد المنظم. ولقد كانت الخلافة الإسلامية تأخذ بسياسة التسامح الديني وتطلق لرعاياها الذميين الذين يؤدون الجزية حرية الاعتقاد والشعائر؛ ولكن الذميين كانوا يلقون من الوجهة الاجتماعية دائما نوعا من المعاملة الخاصة؛ ومنذ خلافة عمر فرضت عليهم بعض الأحكام والقيود التي تجعلهم من الوجهة الاجتماعية أدنى من المسلمين، وكان منها قيود تتعلق بالأزياء وركوب الخيل، وحمل السلاح واقتناء العبيد؛ وكانت هذه الأحكام تتخذ في عصور الحماسة الدينية لوناً من الشدة يختلف باختلاف الظروف والأحوال. قد رأينا إن الخلافة الفاطمية كانت تتبع سياسة التسامح الديني نحو اليهود والنصارى، وإنهم في ظلها ازدهروا وتبوءوا أرفع مناصب الثقة والنفوذ وإن موقف الحاكم نحوهم، واشتداده في معاملتهم على هذا النحو، كان انقلابا في السياسة الفاطمية. وقد نستطيع أن نفسر هذا التطرف من جانب الحاكم، بأنه نوع من الغلو الديني له بواعثه السياسية؛ ففي هذه المرحلة التي أشتد فيها الأمر على اليهود