صوتاً أبصرته يطفو على وجه هذه الأمواج العاتية من ضجة السوق وصراخ الباعة، يرقص نورانياً، ثم يذهب في جوانب السوق القذرة فيغسلها، ويطهرها ويحيلها جنة شممت عبيرها، ورأيت وردها، وسمعت تغريد بلابلها، ذلك الصوت هو (دور) قديم للصفتي طالما سمعته فلم أمله، ولم تبل في أذني جدته، هو دور (يا الله اصلح الحال) الذي يقول فيه، يصرخ صرخة متألم محروق (أنا على نار في انتظار مطلوبي) و (يا اللي عليك العين تبكي أشوفك فين) يرددها وما أحلى ذلك الترداد إذ يقلب فيه الأنغام والقلوب، وهذا هو سر فننا، وفيه براعة المغنى من مغنينا، أما الغافلون فيسحبونه ترداداً نمطياً، وقولاً معاداً، وهو السحر، وهو الفتنة. . . لقد نسيت منه السوق، ونسيت يومي، وعشت مع هذا العاشق الذي تبكي عينيه على حبيب لا يدري أين مقره ومثواه. وأبصرت مأساته، ولمست جرحه الدامي، وأحسست دمه الآني.
يا ناس، افهموا عنا، وسلوا قلوبكم، ودعوا التقليد، فلئن كان العلم عالمياً لا جنس له ولا وطن، فالفن لعمر الفن ما كان عالمياً ولن يكون. حاولوا أن تطربوا الإفرنج بغنائكم. إنكم لن تطربوهم ولا تطربون أنتم لغنائهم، ولكن منا من يستشعر قوتهم وضعفنا، فيخادع نفسه رياء وتقليداً. يا ناس، هذه أغانينا، لا ما تنقلونه إلينا من هناك. إنها لنا وحدنا. إنها ألفت من خفقات قلوبنا، وأشواق محبينا، وزفرات عشاقنا، ودموع آلامنا، ودماء أكبادنا. ألا ترون المغنى ينطلق بها صوته حراً ممتداً، على حين نرى أصحاب هذا الفن (الجديد)، يغنون ملوية أشداقهم، يعتصرون الحناجر اعتصاراً، فيخيل إليّ وأنا أسمع منهم (آه. . .) وهم يرجمون ألفها، أني أمام نفساء تصرخ من آلام الوضع!
أليس حراماً عليكم يا أيها الموسيقيون، أن تحرمونا هذه المتعة بفننا الذي هو لنا، وأن تأتونا بكل غريب عنا! ألم تدركوا أن أذواق الناس لا تنشرح إلا للشرقي الأصيل؟ أنسيتم كيف هتف السامعون في كل قطر عربي لصوت (على بلد المحبوب وديني) لأنه لحننا، ومعانيه معانينا التي نحس بها؟ ما لنا وللجندول وأهل الجندول؟ ما لنا ولأنغام الإفرنج التي لا طعم لها في حلوقنا؟! إن كان لابد من تجديد. فهاتوا مثل تجديد سيد درويش!
أما إنني قد أعجب بعبد الوهاب، ولكني أطرب لدور الصفتي أما الطرب الحق الذي يهز نفسي ويبلغ قرارتها، فللعتابا الشامية، والأبوذية البغدادية، وهذه الأغاني البلدية المصرية!