إن من دأبي كلما هبطت بلداً لا أعرف فيه، أن أجوب طرقاته وأضرب في سككه على غير هدى، أمشي حيث يدعوني بصري وتحملني رجلاى، وكلما رأيت مشهداً استوقفني وقفت عليه، أستمتع بالجديد ألقاه، ولا يلقاه الناس جديداً لطول ألفتهم إياه، وأعجب من الأمر لا يعجبون منه. . . لذائذ خصصت بها من بينهم وحدي!
وأختزن هذه الصور في موضع الذكريات من نفسي إلى اليوم الحاجة إليها، كما يدخر مصور السينما ما يصور من المشاهد ليضعه في مكانه من (الفلم).
وسر المتعة في هذا التطواف أني أرى الناس ولا يرونني، لأن جهلهم بي يصرفهم عن الانتباه إليَّ، فأكون كمن يلبس (طاقية الإخفاء) فيحس الحرية والانطلاق وأنه هو وحده مكافئ لهؤلاء الناس كلهم، وتلك هي لذة الخمول والنكارة، وإنها لأكبر من لذة الشهرة. ولأن أمر في الطريق لا يعرفني فيه أحد أحب إلي من أن يشير بإصبعه إليَّ كل واحد، وإذا كان الرجل المعروف يزهى وينتفخ فإنه يتقيد ويتضايق إذ يحس أنه مراقب، تعد عليه أنفاسه، وتحصى حركاته وسكناته، وإن المجهول المغمور أهدأ منه بالاً، وأسعد حالاً. . . فلا تحسدوا أهل الشهرة على شهرتهم، بل اغبطوا أهل الخمول على خمولهم. . .
مجلة أوتوماتيكية:
من أعجب ما رأيت في مصر، وما أكثر عجائب مصر، مجلة لا يدري صاحبها من أمرها إلا أن يرسل الورق إلى المطبعة وأن يدفع الحساب، أما الكتابة فيها وإعداد مقالاتها فيقوم به صاحب المطبعة بالمقص، فهو يقطع من الجرائد والمجلات والرسائل ما يراه يصلح لها، والمنضد يصف حروفه، والطابع يطبعه، ثم ترسل المجلة إلى المشتركين والباعة، وأعجب من هذا كله أن صاحبها المكتوب اسمه في رأسها بالقلم الجلي لا الثلث، لا يقرؤها ولا يطلع عليها أبداً، ولا يحاول أن يعلم ما الذي نشر فيها. . .
. . . والناس يسمونه صحفياً، وأديباً، وكاتباً، ووزارة المعارف - فيما سمعت - تشتري من مجلته أكثر مما تشتري من مجلة الرسالة مثلاً. . . ويقال بأن هذا العصر عصر