للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المادية التي تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون الخالد، لا تظل على هيئة خاصة معينة، فهي متغيرة متبدلة أبداً، بل قد تزول وتفنى، ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهي لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادي وتخلع ذاك إلى أبد الآبدين. ذلك كما تقول أن للدائرة قانوناً لا يتغير، يخضع لناموسه كلما وجد أو يوجد من الدوائر، وإن كانت الدوائر نفسها تمحى وتتجدد، الا أن قانونها يظل باقياً لا يعتريه التبدل أو الفناء. فأجسامنا، وأفكارنا وهذه الأرض التي نعيش عليها، وكلما يحتوي الكون من أشياء، كل ذلك صور مختلفة تستخدم لإبراز الحقيقة الكائنة وراءها، والتي لا يمسها معنى من معاني التغيير والتبديل، إنما القوالب المادية وحدها هي التي تخضع لذلك التبديل والتغيير.

فالطبعة على هذا الأساس مزدوجة الجوانب، فهي فعالة حيوية منشئة من ناحية (قارن في فلسفة برجسون) وهي منفعلة متأثرة منشأة من ناحية أخرى، هذا الجانب المنفعل المتأثر من الطبيعة: هي أجزاؤها المادية، هي هذه الجبال والبحار والمزارع والرياح وما إلى ذلك من الصور المادية التي لا يحدها الحصر، أما الجانب الفعال المنشئ فهي تلك القوة الكامنة وراء هذه الصور المادية، وهي التي خلقتها خلقاوأبدعتها إبداعاً أو بعبارة أوضح هو الله عز وجل. . .

ويقصد سبينوزا بكلمة (الله) ذلك القانون الثابت الذي لا يجوز عليه التغيير أو الفناء، تلك القوة الفعالة التي تنظم الكون وتباشر ترتيب ما يطرأ من أحداث على المادة التي تملأ جوانب الكون.

ولولا تلك القوانين العامة التي يسير بمقتضاها العالم، لتداعى الكون بعضه على بعض، مثل ذلك مثل الجسر (الكوبري)، فهو في حد ذاته كتلة من المادة، ولكنه مشيد على أساس من القوانين الرياضية والميكانيكية، التي وإن تكن مختفية لا تظهر بشكل محسوس، في مادة الجسر، الا أنها كامنة فيه ولو اختل واحد منها انهار البناء على الفور. فالعالم المادي بمثابة ذلك الجسر، والله سبحانه وتعالى من هذا العالم بمثابة تلك القوانين التي لا ترى ولكنها لا تنكر.

وعلى هذا الاعتبار تكون إرادة الله وقوانين الطبيعة شيء واحد، وكل ما يقع من حوادث

<<  <  ج:
ص:  >  >>