للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عبارة عن النتيجة الآلية المحتومة لتلك القوانين الدائمة، أي أنها ليست عبثا ولا فوضى. فهذا العالم تسيره تلك الإرادة العليا، وليس مخيرا في كثير ولا قليل مما يفرض عليه فرضاً، وليس له عن تنفيذه نحيد. والإنسان - ككل جزء آخر من أجزاء العالم - يسير كذلك في هذه الطريق المرسومة، الا أنه قد تبلغ به الأنانية حدا بعيدا فيظن انه المقصود من خلق هذا الكون الفسيح، وأن هذه الطبيعة وما فيها إنما وجدت من أجله ولصالحه، ولكن لا يجوز للفيلسوف بحال من الأحوال أن ينظر إلى العالم هذه النظرة الشخصية الضيقة فواجب أن نجرد أنفسنا من نزعتنا البشرية، حتى يتسنى لنا أن ندرك الكون مستقلا عنا، بعيدا عما تمليه أغراضنا، وأن ندرسه دراسة موضوعية كحقيقة عارية لا تؤثر فيها الميول الإنسانية. فلا ننسب الخير والشر لهذا الشئ أو ذاك لأن الخير والشر نسبيان للبشر، وليس لهما وجود في الواقع، فإذا ما حكما على شيء قي الطبيعة بأنه عبث وشر، أو أنه يثير فينا السخرية فذلك لأننا لا نعرف الأشياء الا معرفة جزئية، ولأننا نريد أن تسير الامور كما نشتهي نحن، وحسب ما تمليه عقولنا، لأننا نجهل أن الكون وحدة لا تتجزأ، فما نحكم عليه بأنه شر ليس في الحقيقة شرا بالنسبة للقوانين التي تسير الطبيعة بمقتضاها، ولكنه شر بالنسبة لطبيعتنا نحن بعد فصلها وانتزاعها من تلك الوحدة الكونية. فالشر والخير أوهام لا تعرفها الحقيقة الخالدة. لا ولا الجمال والقبح لأنهما كذلك أوصاف اصطلح عليها الإنسان. فالشيء الجميل والشيء القبيح هما في نظر القوانين العامة سواء ولا تفضيل لأحدهما على الآخر. هكذا يريد سبينوزا أن نجرد أنفسنا من كل النزعات والميول والأغراض وأن ننظر إلى العالم من وجهة نظر الواقع، لا من وجهة نظرنا نحن. حتى نصدر أحكاما صحيحة. يجب أن ننظر إلى العالم نظرة مجردة كما ننظر إلى المثلث مثلا، فأنت لا تحكم عليه كما يقع في نفسك، فيكون لك فيه رأي ولي فيه رأي آخر، لا بل ننظر إليه بالنسبة إلى القانون العام المجرد الذي يتحكم في جميع المثلثات على السواء فيكون المثلث عندك كما هو عندي وعند أي إنسان. فلننظر إذن إلى هذا العالم من وجهة نظر قوانينه الثابتة الشاملة حتى لا يتغير باختلاف الميول والأشخاص. ويزعم سبينوزا: أن تلك النظرة الشخصية قد أفسدت علينا فهم الله سبحانه وتعالى فهما صحيحا، فأخذنا ننسب إليه صفاتنا نحن، لماذا؟ لأننا أبصرناه من نافذة نفوسنا، ولم نتجرد لنطل عليه من

<<  <  ج:
ص:  >  >>