للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

جسمها؛ فأمرتها بالجلوس وتقدمت إليها بالغناء. فضربت على عود ضرباً ما سمعت ارق ولا أحلى حلاوة منه، واندفعت تغني:

نمّتْ علينا زفرةٌ صاعدهْ ... وملّني العائدُ والعائدْ

فلم اسمع يا أمير المؤمنين أشجى ولا افجع ولا اطرب من غنائها. ثم أخذت تبكي، وذرفت دمعاً هاج حزني ولكم قلبي، وأرسلت آهات ناعمات من صدر ملوع وقلب مفجع. ثم سمعنا فجأة بكاء الفتى من الغرفة المجاورة. فقامت الجارية إليه. وطرق آذاننا صوت بكاء محزن، وشهيق اليم؛ ثم سكنت الأصوات حتى حسبنا انهما ماتاً. فعجبنا من أمرهما، وقلت للنخاس: (ويحك! قم فانظر ماذا أصابهما. . .) وإذا بالفتى يخرج قائلاً: (عفواً يا سادتي. . .!) ثم غلبه البكاء فلم يستطع الكلام. فأشفقت عليه وقلت: (ما حالك يا فتى؟) فبكى. فأعدت عليه السؤال وألححت في الطلب، فتحرك وقال:

(نشأت نشأة فريدة مغمورة بالعطف والدلال. وكان أبي موسراً، أزهرت النعمة في دياره وتدفقت الدنانير عليه. وكنت ألهو في بستان يحيط بالقصر مع هذه الجارية التي ربتها أمي. فكنا نرتع فوق العشب، ونغوص في الماء، ونتسلق النخيل، ونطلق أنفسنا في لهو الطفولة الحلو. على أني كنت أحس بانقباض في صدري إذا ابتعدت مني؛ واشعر بالوحشة تغمرني كلما غابت عني، فلما بلغت السابعة وبلغتها، جيء لي بمؤدب يؤدبني، واتى لها بمغنية تتخرج عليها. أما أنا فتوفرت على الأدب التقط النوادر، واحفظ الفرائد، واروي الأشعار والأحاديث. وأما هي فقد انقطعت إلى الغناء لتمهر في طرائقه وتبرع في أصواته. فلما أورق غصني ورف صباي، ازداد حبها في قلبي؛ وخطبني وجوه أهل البصرة لبناتهم، وذاع صيتي في البيوتات، وأصبحت أمنية العذارى والفتيات، ورغبن فيّ لفصاحتي وأدبي ووفرة مالي. فأعرضت عنهن جميعاً وصبوت إلى هذه الجارية التي كان الجمال يرتع في جسمها، والفتنة تسجو في عينيها، فيتحرق قلبي ويتألم، ويضؤل جسمي ويرق

لقد كان صوتها، يا مولاي، مسكراً ناعماً حلواً. كنت انتشى فاغمر فمها الحلو الصغير بقبلي. . . أو اجثوا أمام قدميها فيزداد طربي. . . لقد كان في صوتها شيء يداعب الروح لا أدري كنه؛ شيء فيه نعومة وشهوة وحنين. فكانت إذا فرغت من الغناء جلست أمامي لأطربها بالأشعار، وأضحكها بالنوادر، وأطرفها بالأحاديث

<<  <  ج:
ص:  >  >>