فلم بلغ بها الغناء مبلغاً بعيداً، عزمت أمي على بيعها، وهي لا تدري ما في نفسي من وجد وشوق. فغامت الدنيا في عيني، ولجت نفسي في ألوان من الأفعال اقلها الانتحار. ثم قررت أن اصدق أمي خبري فأخبرتها. فأشفقت علي ووهبتها لي، وجهزها أبي كما يجهز أهل البيوتات بناتهن وجواريهن
ونعمت معها دهراً لهوت بها عن الدنيا وما فيها. وكنت احب سماع صوتها في ألاماسي والأصابيح تحت ظلال النخيل، وبين القصب؛ فكانت تغنيني فأتيه وأغيب. ولكني وا أسفاه! لم اصح من هدهدات الغناء إلا على نوح النائحات وبكاء الباكيات؛ فقد مات أبي، وأنا ما أزال في ريعان الصبا
وانتقل إليّ بوفاته ما لا أحصيه من الأموال. على أني لم أكد أسلو لوعة الفقد الأولى. حتى عاجل الموت أمي. فبكيت وحزنت، ثم أغواني الشيطان وقال: مالك وللحزن! إن شبابك يفنى وعمرك ينقضي، فانعم ولذ بجاريتك. فأسأت تدبير الأموال، وعكفت على اللهو والقيان، فتلفت نعمتي، وابتزت الحسان مالي، فعشت في هذه الخرائب كما ترى؛ بكاء على الماضي وحنين لأيام الهناءة والنعيم
وذرف دمعة، يا أمير المؤمنين، وصمت. فقلت له: ثم ماذا؟ أتمم. . . أتمم. . .! قال:(وبقيت على ذلك سنتين، لا نذوق طعم اللحم إلا لماماً. وكانت يا مولاي وفية، لا تستطيع مفارقتي رغم ما تلاقيه من ضنك العيش ومرارة الإقلال. وكانت تحبني حباً عنيفاً، فادركتني الشفقة عليها، وقلت لها: استمعي يا أختاه! لقد عبست لنا الأيام، فأصبحنا كما ترين، وأنت ما تزالين غضة الصبا، ريانة الشباب، وأنا آلم لما تكابدينه من البؤس والفقر، واعلم أني تالف متى فارقتك، ولكني أوثر أن أراك منعمة هانئة، فدعيني أعرضك على أصحاب الخليفة، فلعل واحداً يشتريك فتنعمي معه برغد العيش!
فبكت بكاء كله وله وحنين وقالت: (مالي وللطعام، مالي وللثياب، وأنت إلى جانبي. أنا أريدك أنت، أنت وحدك، لا أريد مالاً ولا ثياباً. . .!) فحزنت وقلقت، ولكني خرجت سراً إلى هذا النخاس فأطلعته طلع أمري، وأعلمته أني لا اعرضها إلا في داري لئلا تمتهن بالأسواق ويراها السوقة والعوام.
فلما جئتنا الساعة، بقيت في الغرفة، وألبستها ثوبي الممزق فما عندي ولا عندها غيره.