للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويسألهم، ويطالع وجه زوجه ساعة بعد ساعة، ويسأل العرافين، ويزور أضرحة الأولياء ويفسر الأحلام، ملتمساً الطمأنينة في مظانها جميعاً. . .

وهل ينسى الليالي التي قضاها مسهداً قلقاً لا يغمض له جفن ينظر ببصر حائر إلى الوجه الشاحب على ضوء المصباح الأحمر الخافت؟. . . وكانت هي مسكينة تستحق الرثاء، تضطرب بين النوم القلق واليقظة الحائرة، وبين النزاع والهذيان، وما هذا الهذيان!. . . إنه ظاهرة عجيبة تدل على أن الإنسان قد يخون نفسه كما يخون الآخرين. كان يصغي إليها وهي تذكر بلسان متقطع أسماء أناس وأماكن وحوادث كثيرة، وكان شاركها شهود بعضها، فجرى الابتسام على فيه، وترطب التهاب عينيه المحمرتين بنظرة حنان. وفي ذات ليلة سمعها تناديه بصوت واضح قائلة: (صابر) فهرع إليها متسائلاً: (نعيمة. . . هل تحتاجين إلى شيء؟) ولكنه أدرك أنه خدع لأنها كانت مغمضة العينين يابسة الفم كما يبدو ازدراد ريقها بصعوبة، فعلم أنها ماضية في هذيانها الذي لا ينتهي فعاد إلى سريره، وما كاد يرقد مرة أُخرى حتى سمعها تقول وكأنها تحادثه: (صابر. . . أنا متألمة خجلة) فهز رأسه المثقل المتعب وقال لنفسه: (أنت متألمة بغير شك. أعانك الله على ما أنت فيه، ولكن مم تخجلين! أن هذا الابتلاء لا يخجل أحداً وإن كان يحزننا جميعاً) وظن أنها تألم لما يتكلفه من حولها من العناء والسهر، فرمقها بنظرة حنان ورجا أن يكون هذا الشعور من آي اليقظة والشفاء؛ واستدركت المرأة تقول: (زوجي أحسن الأزواج؛ أما أنا فشقية. . . لست أهلا لوفائه) فتنهد الشاب حزناً وتمتم قائلاً بصوت غير مسموع: (أنت أهل لكل خير). وأراد أن يناديها لعله ينتشلها من تيار أفكارها المحمومة، ولكنها حركت رأسها بعنف على الوسادة وقالت بحنق: (راشد. . . كفى وابتعد عني. . . أبتعد ودعني. . .) وكان يهم بمناداتها فاحتبس الكلام في فيه، وحملقت عيناه المسهدتان، وبدا على وجهه الذهول والإنكار وجلس في فراشه وهو يتساءل:

(راشد! من راشد هذا؟). وكان يشعر شعوراً باطنياً بأنه لا يسمع هذا الاسم لأول مرة، وكأنما سبق أن آذى مشاعره. واسند جبينه إلى كفه وأغمض عينيه، وكأن صاحب هذا الاسم يعيش في الظلام، فقد رآه وعرفه، وأحس لذلك رجفة تسري في مفاصله. . . راشد أمين أو أمين راشد - لا يذكر - شاب نافسه في طلب يدها على عهد خطبته لها، ولولا أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>