والدها فضله هو واختاره لكان قد تزوج منها. وقد تذكر أنه رآه مرة وإن كان لا يحفظ من صورته أي أثر؛ ورفع رأسه مرة أُخرى ونظر إليها بعينين مرتابتين لا تصدقان؛ ورغب رغبة حارة في أن يستزيدها ويستوضحها، ولكنه لم يدر كيف يحثها على الكلام، ورأى شفتيها تتحركان في ضعف؛ فدنا من حافة سريرها وأرهف السمع وكتم أنفاسه وهو يعاني جزعاً مجنوناً فسمع صوتها يقول فيما يشبه الأنين:(من يقول هذا. . . أف. . . والخيانة. . . راشد. . . صابر. . . الخيانة شيء قذر. . .) فشبك كفيه وشدهما على صدره بحالة عصبية كأنما يضرع إلى شيء مجهول أن يمنع كارثة على وشك الوقوع، وذهل بصره من طول الجمود على وجهها، فغاب عنه ما حوله، وكبر الوجه في وهمه حتى ملأ الفراغ الذي أمامه فثقل عليه وسمج، ودوى صوتها في أذنيه، فصار كطنين لا ينقطع، وثقل تنفسه ويبس حلقه. . . ما هذا الذي تتكلم عنه؟! ما هذه الخيانة التي أطلق الهذيان عقدة كتمانها فانطلقت خبيئة منكرة أنكى من الحمى؟! هل يكذب الهذيان؟ كيف يكذب الهذيان؟! ولكن كيف يصدق أذنيه وما بذل زوج لزوجة عشر ما بذل من الرقة والمودة، وما بذلت زوجة لزوجها عشر ما كانت تبذله له من الصفاء والإخلاص؟ فكيف انطوى هذا على أقذر ما تبتلي به الضمائر والنفوس؟ رباه. . . أنها تقول أن الخيانة شيء قذر، وإنها لكذلك، ولكن لا يفزع في هذيانه من قذارتها إلا من انغمس في بؤرتها. رباه. . . لقد ظن أن ما ابتلى به من مرض زوجة أقسى ما ابتلى به إنسان، فإذا به بلاء هين عابر، لا يقاس بما هتك الهذيان أستاره، وأحس اليأس يحبس أنفاسه، وكان صابر دمث الأخلاق، لين الجانب رقيق الحاشية، لا يدفعه الغضب إلى الانفعال الشديد والعدوان ولكنه يشل حركته، ويعطف اندفاع أعصابه إلى صميم نفسه، فيجعله كسيارة يدفعها محركها، وتقيد الفرملة عجلاتها، ولكنه بالرغم من هذا، تحولت رأسه بحركة عصبية إلى سرير الطفلة، وبرح فراشه في سكون، ودنا منه وأزاح ستاره، وألقى نظرة غريبة على الوجه الصغير المدمج القسمات وأدام إليه النظر والشك والألم يأكلان قلبه بقسوة، ثم تحول عنه إلى وجه زوجه كأنه يسألها ويستوضحها، ودنا من فراشها كالسائر في نومه حتى التصق به وكانت مغمضة العينين بادية الاصفرار والخور، تقلب رأسها ذات اليمين وذات الشمال، فألقى عليها نظرة جامدة، جرى فيها بريق القسوة جريان البرق في السحاب الداكن، وكان قبل لحظات إذا وقف