موقفه هذا اضطرب جسمه من الحنان والرحمة، ودمعت عيناه، ولكن قلبه تحجر هذه المرة فمال عليها حتى نسمت عليها أنفاسه وسألها:(نعيمة. . . نعيمة. . . ماذا فعل راشد؟) فلم تنتبه إليه ولم تصح، فرفع صوته وناداها وهو لا يدري:(نعيمة) فبلغ صوته مسمعي أمها في الحجرة القريبة. وقامت المرأة من فراشها مضطربة وهي تظن الظنون وهرعت إليه متسائلة: مالها. . . هل أعطيتها الدواء؟ ولم يكن أعطاها شيئاً، وكان يريد استبقاء حالة الهذيان التي تعانيها ليستنطقها ما يريد فكذب عليها قائلاً في استهانة وقسوة:(نعم وهي بخير والحمد لله) وعاد إلى فراشه وأسند رأسه المثخن بالجراح إلى الوسادة ليتخلص منها، ولبثت حماته قليلاً. وفي أثناء ذلك أخلدت المريضة إلى الهدوء والسكينة كأنما راحت في نوم عميق فبرحت المرأة الغرفة وكان يتشوق إلى إيقاظها ولكنه خشى التي في الخارج، فمضى بقية الليل مفتوح العينين محموم الرأس بالأخيلة الشيطانية وعيناه زائغتان ما بين فراش المريضة ومهد الطفلة.
وحين سفور الصباح عاودت اليقظة المريضة وبدا عليها أنها لا تحس شيئاً حتى اهتدت عيناها إليه فبدت فيها حياة ضعيفة وقالت بصوت غدا من وهنه كالصفير (ما الذي أيقظك؟ لماذا ترهق نفسك هكذا؟) فرد عليها بنظرة جامدة وكانت تبدو ذاك الصباح أشد هزالاً وشحوباً، ولاحت في عينيها نظرة الوداع المخيفة، وكان يشغل باله شيء واحد أسهده الليل ولم يجهل أن إثارته خطر يهدد بالقضاء عليها، ولكنه لم يحس سواه ولم يبال غيره، وكان يشعر نحوها ساعته بحنق وكراهية ورغبة في الانتقام فقال بلهجة جافة:(تكلمت الليلة الماضية كثيراً، فشرقت وغربت، وأجرى الهذيان على لسانك كلاماً يحتاج إلى إيضاح) فلم تفهم شيئاً ونظرت إليه بعينين لا تعبران عن شيء سوى الذهول المطلق، وأراد أن يسترسل ولكن منعه عن الاسترسال صراخ الطفلة فجأة، فما لبثت أن هرعت إلى الحجرة حماته والمرضعة فنكص على عقبيه مغضباً وهو يقول لنفسه:(الطفلة الملعونة تداري فضيحة أمها وأبيها!). وغادر البيت يهيم على وجهه ومضى يحدث نفسه: (كان ينبغي أن أعلم كل شيء وقد أتيحت لي فرص، لماذا أفر من صراخ الطفلة؟ أو من ظهور جدتها؟ الحقيقة أني ضعيف. . . ضعيف. . . دائماً يندى قلبي بالحنان وبالعطف، فما كان أجدر بي أن أكون ممرضة. . . أما رجلاً فلا. . . لست رجلاً ولست زوجاَ. . . فأمثالي نساء