لبثنا صاعدين ساعات طوالاً، والطريق تتسع بنا أو تضيق، والقرى تبدو لنا خيالاتها كأنها الأمل الباسم يومض نوره من خلال الأمل الطاغي، وهي متكئة على أكتاف الصخور، أو نائمة في حجر الجبل نومة الطفل المدلل في حضن أمه الرؤوم، والمشاهد تتبدل لنواظرنا أبداً، فلا تترك جميلاً إلا إلى ما هو أجمل، فلا ندري فيم نتأمل، وأين ننظر، كالذي يشهد معارض الفن الجميل فيحار أين يقف، وعلى أي لوحة يلقي البصر. . .
إن لبنان معرض الفن العلوي الذي أبدعته يد الله، فمن لم ير لبنان (لبناننا الشرقي النقي الطاهر، ولبنان القوم المرح الشاعر) لم ير من دنياه شيئاً!
بلغنا من الصعود ما لا نطيق أكثر منه، فنظرنا إلى أقدامنا، فإذا تحتنا أودية وأودية لا ينال البصر أدانيها، وإذا هي غارقة في الضباب، ومحجوبة بالسحاب الذي علونا عليه فصار جريه من تحتنا، وإذا هي مهولة مخيفة، ولكنها سبيلنا ما لنا من الهبوط إليها يد، بعد أن أضعنا الطريق وبلغنا هذه الذرى الخالية، فتوكلنها على الله وأخذنا نهبط في فزعين، ولم يكن ثمة من طريق فكنا نثب من الصخرة، وننحدر في المسيل، ونتزحلق على الحصى، والوادي العميق لا يزال كما كان غارقاً في الضباب، كأنه صورة مبهمة لاحت لشاعر، أو فكرة غامضة أو مضت في رأس عالم، وكنا كلما هبطنا درجة فتحت لنا صفحة جديدة من كتاب الجمال السرمدي، فلا نكاد نقرأ منها حرفاً، لأن لنا من حيرتنا وتعبنا وفزعنا ما يشغلنا عن تلاوة آيات الجمال. . .
حتى إذا مضت ساعات وآذن النهار بالرحيل، بلغنا قرارة الوادي، فإذا هو خال موحش يبدو لنا كأنه قبر، وإذا الأشواك والأزهار والأوراد قد حفت به متشابكة مؤتلفة حتى لا سبيل إلى بلوغه، ولم تكن قد مستها يد بشرية مدمرة، فبقيت على طبيعتها متعانقة لم يفسد ألفتها شيء، ولم يعبث بجمالها عابث، فدرنا حولها نفتش عن مجاز نجوز منه، فوجدنا بعد لأي طريقاً ضيقاً ملتوياً، فسرنا فيه نلتوي معه حتى بلغنا الأعماق. . .
كان الوادي ضيقاً عميقاً كأنه فجوة صغيرة، فنظرنا في جوانبه فلم نلق أثراً لإنسان فرفعنا رؤوسنا فإذا نحن نبصر على الجانبين جداراً هائلاً من الصخر، لا يبلغ البصر أعاليه، وإذا نحن في بئر عميقة نائية عن الدنيا، لم تبلغها الحضارة بخياراتها ولا بشرورها بعيدة عن