البشر لم يصلوا إليها، ولم يعلموا بها فأيقنا أنا قد كشفنا سراً من أسرار الطبيعة في هذا الجبل. وكم للطبيعة فيه من أسرار لم يكشفها إلى اليوم أحد!. . . وملكتنا رهبة المكان فسرنا صامتين، وابتعدت عنهم أنقب في جوانب الوادي، فإذا أنا بسلسال ماء يهبط من الذرى العالية يقطع مئات الصخور والحدور، حتى يستقر في هذا الوادي، كأنه رسالة الحياة وهديتها إليه فذهبت أتبع مجراه، وأتقصى أصله، فإذا أنا ألمح داراً متوارية وراء صخرة من الصخور الضخمة، وإذا أنا أسمع صوتاً يختلط بخرير الينبوع، ويرن صداه الخافت الفاتن في سكون الوادي الضيق، فيهز من القلوب حباتها، فأعجب من هذا الصوت وأقبل عليه على حذر فإذا أنا أتبين فيه هذه الأغنية اللبنانية الخالدة، التي تحمل عبقرية الأجداد، وصورة آلامهم ومسراتهم، وخوالجهم وهواجسهم، فيتلقاها الأحفاد ويزيدون عليها آلامهم وآمالهم فلا تنتهي أبداً، بل تبقى دائماً نشيد الشعب، بل أغنية القلب. . .
عَ اليادل يادل يادل. . . . . .
لَطْلعْ عَ راس الجبل ... وَشْرِفْ على الوادي
وقول يا مرحباً ... نَسَّم هوا بلادي
يا رب يطوف النهر ... ويمتلي الوادي
لَعْمِل زنودي جسر ... ومَرِّيء البنية
يا رايحين على حلب ... حبي معاكم راح
يا مشيلين العنب ... فوق العنب تفاح
كل مين حبيبه معو ... ونا حبيبي راح
يا رب نسمة هوا ... ترد الحبيب ليا
فهزني الغناء، قبلت على الرجل يدفعني الاستطلاع والفضول ويردني الفزع وخشية المجهول، وأثبته نظرا فإذا شيخ همٌّ أبيض اللمة واللحية بأسمال بالية، فلما رآني وثب مرتاعاً فِعْل من لم ير إنساناً قط وقذف في وجهي بصرخة هي إلى صراخ الوحش النافر أدنى منها إلي صياح الناس، وولى هارباً، فخفته، ولكني تجلدت، وتبعته فمررت بأرض مزروعة ورأيت عدداً من الشاء نفرن مني لما أبصرنتي، فأدركته عند باب الدار، فجعلت ألطف به وأكلمه، وهو ينظر إليّ وقد امحت وحشيته الأولى وصار وجهه كوجه طفل