للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بريء، وجعل يصغي إلى كلامي، شارد البصر يحاول أن يتفهم معناه ويردد بعض الكلمات بصوت خافت رهيب، فوقع في نفسي أنه مجنون، أو أنه قد نسى الكلام وكان الليل قد بسط على الدنيا جناحيه ولم يبق لنا بد من المبيت في هذا الوادي، فعدت ألطف بالشيخ وأكلمه حتى أنطلق لسانه فتكلم. . .

قال:

. . . نعم خالفت إرادة السلطان، وفررت بها إلى هذا الوادي. أليست ابنة عمي؟ أليس الحب يؤلف بين قلبينا؟

فهممت أن أسأله عنها، ولكني وجدته لا يعي الكلام وخفت إن أنا سألته أن يفوتني حديث قد لا أسمع مثله أبداً فسكت وعاد هو يقول:

لقد عشنا سعيدين لا نرى أحداً ولا يرانا، نزرع هذه الأرض فنأكل من ثمرها، ونسوق هذه الماشية فننال من ألبانها ولحومها، وكنا أسعد الناس، ولكنها ماتت، ماتت منذ أربعين سنة فماتت معها نفسي. وهذا هو قبرها. . .

وبكى الشيخ فأبكانا ثم قال:

إن أعيش من بعدها بلا حياة، أنا ميت، فاقض في ما أنت قاض. خذني إلى السلطان عبد الحميد ليقطع رأسي، لم يبق لي من الدنيا أرب بعد أن ماتت. . . لقد عشت بحبها، وأموت على حبها وهذا يكفيني. . .

ثم قام مشرعاً فاختفى بين أدغال الوادي، وترك لنا بيته وطعامه وشرابه فلبثنا فيه ننتظر الصباح

(بغداد)

علي الطنطاوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>