في شك من أن السائح الذي يرى معالم النهوض تبدو في مصر واضحة في العمارة والعلم والفن والاقتصاد، ثم يشهد الانحطاط لذي يدب في مهنة الزراعة عندنا سيأخذه الذهول والعجب. . . إذا أردنا أن نحقق للمجتمع مثله الأعلى الذي ينشده ويحن إلى تحقيقه فلنعد إلى شتى طبقاته ونوجد بينها التعاون الفكري ليوجد التوازن في التطور الذي يعم الحياة ويسود مرافقها. . .
وأظن أن المجتمع يحسن إلى نفسه كثيرا إن هو غير نظرته إلى المهن التافهة، لأن الاحتقار الذي يصبه الناس عليها يباعد بينها وبين رغبة المثقفين في الاشتغال بها. . كان توماس كارليل يتغنى بالبطولة ويناشد الإنسانية عبادة أصحابها وإجلال شأنهم. فما تاريخ الإنسانية في زعمه الا تاريخ العظماء من أبنائها. .! ولكن سبنسر يقول إن البطل يبني عظمته على حساب من يبخل عليهم المجتمع باحترامه. . . فمن جهاد الجندي المسكين استعار القائد عظمته ومن شقوة العامل المعذب استمد الثري راحته. فمن الظلم والجور أن نقول أن تاريخ الإنسانية بأسرها تاريخ العظماء من أفرادها. .
ولكن الإنسانية قد بدأت تكفر عن سيئاتها حين هبت تحيي الجندي المجهول (في ميدان الحرب) وترفع من شأنه وتجل من ذكره، وقد بقي عليها أن تمضي إلى إجلال الجندي المجهول في ميدان السلم، إذ ما زالت تعيش على عرق جبينه في الكثير من مناحي حياتها. وأكبر ظني أن هذا الإجلال الذي سيظفر به الجندي المجهول قبل أن يواريه التراب خير ما يمهد للمثقفين الطريق إلى الاشتغال بالمهن الضئيلة.
تساءل صاموبل سمايلر: أيهما يخفض أو يرفع من شأن الآخر: المهنة أم الإنسان. .؟ إنما يرفع من شأن المهنة التافهة ناضج الفكر سليم العقل، وكأنما تستعير المهنة من جلاله جلالة، ومن رهبة مكانته قداسة. . وهذا بالإضافة إلى نتاجها الذي سيربو ويزداد على يديه. . واعتبر عكس هذا في المهن الرفيعة العالية يوم يشغلها من ليس أهلا لها.
ولا ينبغي أن نخشى على عبقرية المثقفين أن تنزوي وتفنى في تفاهة المهنة، فان العبقرية الصحيحة لا تستكين لظلم الزمان ولا تخضع لحكم القدر، وان آياتها لتبدو وتلوح ولو كرهت ظروف صاحبها وعملت على طمس معالمها. . فاتركوا المثقفين يعملوا ويضربوا في زحمة الحياة حيثما ألقت بهم المقادير، والجهاد خير محك للعبقرية وأصدق ميزان لها.