وكانوا السباقين أيضاً في عهدهم الفينيقي إلى وضع أول حجر في بنيان الحضارة الراهنة. فهم أول من اخترع حروف الهجاء ونشروا رسالتها بين الأمم، وحملوا مشعلها الساطع في متون البحار ومجاهل البوادي والقفار، فخلقوا بها العلم خلقاً، وأسسوا بها للمدنية أساساً مكيناً.
وهم أيضاً أول من أنشئوا السفن ومخروا عباب اليم، فربطوا العالم القديم برباط تقايض السلع والمتاجر وتبادل الأفكار والآراء، وتقارب الشعوب بعضها إلى بعض بالصلات السياسية والاجتماعية وغيرها.
وكانت مدن لبنان من أمهات مدن العالم في العهد القديم، تصدر أرجوانها وأصباغها ونتاج صناعها الحاذقين كما تصدر آدابها ومعارفها إلى مختلف أنحاء الأرض.
فتاريخ صيدا وصور وجبيل حافل بالعظائم. وقد أنشأ لبنان أيضاً في عهده الفينيقي عدة مستعمرات في أفريقيا وجنوبي أوربا، غير أنه كان يرمي من إنشائها إلى توطيد أسس التجارة وتعزيز تبادل المنافع بين الأمم، لا إلى الفتح والاستئثار بحرية الآخرين كما تفعل أمم اليوم. فلبنان لم يكن في عهد من العهود دولة محتاجة قائمة على السيف والمدفع والقوة الغاشمة بل كان ولم يزل بلداً مسالماً حاملا رسالة العلم والأدب ناشراً لواء الصناعة والتجارة في كل صقع وناد.
وفي العهد الروماني لبث لبنان محافظاً على رسالته الأدبية فكانت بيروت عاصمته اليوم تلقب بمدينة الشرائع والنواقيس يؤمها الطلاب من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية الفسيحة الأرجاء. وفي العصر البيزنطي ثار لبنان على الجور والظلم وسجل أبناؤه الأشاوس في تاريخ الحرية الإنسانية صفحة مجيدة حتى أنهم لقبوا بالمردة لشدة تمردهم وقوة شكيمتهم وانتقامهم.
وفي أوائل العهد العربي دخل لبنان أفخاذ من بعض القبائل العربية ومعظمهم يدينون بالنصرانية ونشروا بين ظهرانية لغة الضاد، فاعتنقها أهل لبنان عامة لأنها شقيقة لغتهم الآرامية السريانية تقرب منها حروفاً وصوراً، ولأنهم أيضاً يمتون بأنسابهم السامية إلى تلك القبائل التي أنزلوها بينهم على الرحب والسعة. فاستعرب لبنان سهلا وجبلا مندفعاً لا