مرغماً. وأصبحت العربية لغته الوحيدة. أما السريانية فانكمشت ضمن جدران الكنائس والمعابد، تستعمل في بعض الطقوس الدينية كما تستعمل اللاتينية في الغرب.
وكان لبنان في خلال الحكم العربي ملتقى الشرق والغرب، وصلة وصل بين أممهما في عهد البيزنطيين والصليبيين. فاجتمعت فيه الحضارتان وتعانق الدينان دين الإنجيل ودين القرآن.
ولما انقرضت دولة العرب وخلفهم العثمانيون في الحكم دانت لهم البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها إلا لبنان فظل وحده محتفظاً باستقلاله الداخلي يحكمه أمراؤه ومقدموه. وبقيت اللغة العربية الشريفة زاهية زاهرة ضمن جدران أدياره ومعابده وفي ظلال خلواته ومساجده، لم تتسرب إليها العجمة والرطانة كما تسربت إليها بين اقحاح العرب أنفسهم، حتى الحجاز واليمن وهما منبع العروبة ومعقلها لم تسلم لغتهما من حوشي التركية وغريب ألفاظها.
وقد بلغ لبنان في عهد الأمير الكبير فخر الدين المعنى مكانة رفيعة، فهابه السلطاني القمائي وخطب وده بعض ملوك الفرنجة وأكبروا شأنه وشأن وطنه الصغير فتبادل معهم الرسل والهدايا وحالفهم محالفة الند للند، وزار إيطاليا فقوبل مقابلة أصحاب التيجان. واختلط بسكانها واستوعب حضارتهم. ثم آب إلى وطنه يعمل على تمكن الصلات الروحية والمادية بين الشرق والغرب، فأوغر صدر الترك عليه وأصلوه حرباً ضروساً أقضت مضجعه وأبادت أحلامه وأمانيه. فاستسلم مرغماً إليهم وقضى نحبه شهيداً في عاصمتهم.
وحذا خلفاؤه المعنيون والشهابيون حذوه في العناية بلغة الضاد، لغة الوحي والنبوة. فلم تصب بالتشويه ولم تفقد نقاء أسلوبها وصفاء بيانها، لأن اللغة التركية لم يسعدها الحظ طوال الحكم العثماني في بلاد العرب بأن تخطو خطوة في لبنان أو تعبر قدما. بل ظلت خارج حدوده عاجزة عن اجتياحه. وظل لبنان مضطلعاً أيضاً برسالته الإنسانية المجيدة رسالة تتبادل المنافع بين الشرق والغرب وتمازج حضارتيهما.
وقد شعر العالم اليوم بعد طول المحن والتجارب أن رقي البشر وسلامهم لا يأتيان بدون تزاوج الحضارتين وتواؤم الثقافتين.
وعاد لبنان إلى سابق عزه وازدهاره في عهد الأمير بشير الكبير حليف عاهل مصر الأكبر