لو أننا نخدع في إدراك المصائب كما خدع الأصغر، أو لو أننا ندركها باردة بسيطة كما أدركها الذي يليه، أو أننا ندركها إدراك ذلك الأب الصبور الحمول العارف بقوانين الحياة، لكان في هذا نجاة من وطأتها على نفوسنا. أما أن ندركها إدراك كبير هؤلاء الأطفال من غير علة ولا تَعِلَّة وعزاء، فذلك أشد الألم، لأنه ألم المصيبة وألم الحيرة في إدراك أسبابها وعلاجها. هذه كأس حنظل. . .
وأما الأخرى فقد تناولتها من يد الدنيا في عشية ذلك اليوم نفسه في عش يبنى لفتى وفتاة. . . والمدعوون جالسون كل منهم باش يرسل نكتة أو يضحك من نكتة، وفرح الحياة يترقرق في الوجوه ترقرق الشراب في كؤوس بلورية
وكان على شفتيّ بقية من كأس الحنظل التي شربتها في الصباح فوجدت طعمها فيما قدم إلي من شراب العرس. وهنا أدركت أن دنياي شاعرة حاذقة، وأنها ابتدأت تصاحبني بصدق. وشربت كأس التفاح وأنا أجمجم بكلمات خفية كما يجمجم المجوس على الطعام. . . وكانت هذه الكلمات قصائد وصلوات تلاها في حلقي ذاك المزيج الذي ذقت فيه خلاصة صنعة الدنيا الشاعرة. . والذي تحولت قطراته إلى كلماتها الآتية:
(اشرب! اشرب! ولا تخش السكر من هذه الكأس التي مزجتها لك بيدي! فإن ما فيها من أضداد تصطرع، كفيل بأن يترك عقلك دائماً في غاية الصحو. . . اشرب ولا يحاول لسانك أن يميز بين عنصري هذا المزيج فيُبَلبَل ولا يستطيع البيان. . . اشرب وإنظرني دائماً في قرارة الكأس متجسدة عارية لعينيك. . .
اشرب واحتفظ بمذاق هذا الشراب دائماً حتى تستطيع تقدير الطعوم الأخرى. . .
اشرب وأحذر أن تحدث من يحيطون بك في مجلس العرس بما تجد في كأسك فيقولوا عنك: (هذا سكران يهذي. . .)
(طالما شربتَ من كأس الحنظل وحدها حتى سكرتَ بالألم فوقعت منك الكأس وتحطمت. . .
وطالما شربت من كأس التفاح وحدها حتى سكرت من اللذة فوقعت منك الكأس وتحطمت. . .