وقد تعودتم أن تضيفوا لفظة (السكر) إلى اللذة وحدها. ألا وإن للألم سكراً لا يقل شناعة وطيشاً وهذياناً وسفهاً عن سكر اللذة!
انظروا إلى أبي العلاء المعري! إنه عندي لا يقل إثماً عن الأعمى الآخر بشار، ولا عن أبي نواس!
لقد غرق المعري في كأس الألم وغرق الآخران في كأس اللذة ففقدتهم جميعاً. . .
لقد أتى المعري بهذيان كثير جعله يخرج عن دائرة الحياة العاملة ويعيش جامداً على هامشي أنا الحركة الدائمة العنيفة المنتظمة، يرصدني من بعد في محبسيه بعينيه المغلقتين، ويلمسني في خشونة وجهه المجدور، ويذوقني في طعامه المحدود، ويستنشق أجوائي في محبسه الضيق الخانق، ويراني عدماً وفقداً لأنه أنهى حبل النسل الذي تناهى إليه آدم. . . فهذى في كثير ولم يميز بين كثير من حقائقي وأباطيلي وحلاوتي ومرارتي وأزهاري وأشواكي، وكان الحرمان المطلق جذوة شعره وباعث سكره. . .
ولقد أتى الآخران بالهذيان المعهود لكم من سكارى اللذة الآثمة، وما زالا كذلك حتى ارتعشت يداهما وعجزتا عن حمل الكأس الفاتنة
رفع أبو العلاء الكأس طافحة بماء الحنظل لا يرى لها لوناً ولا يشم رائحة وليس له نديم. وقد طال وقوف الكأس على يديه حتى ساغت في حلقه على مرارتها، وشعشعها بالظلام الدائم الساكن في عينيه. تمر به مواكب الحياة بجليلها وحقيرها وجميلها وقبيحها فيراها من سكره بآلامه، جنازة موتي وكومات أنقاض. . . برغوثها كشحاذها يستحق الإحسان والإطلاق، وفرّوجها كشبلها يستحق الإجلال والخشية، وحشراتها وبهائمها تستحق الحياة الدائمة كإنسانها. . .
أليس هذا هذياناً كهذيان أبي نؤاس حين يرفع كأسه طافحة بماء العنب مشعشعة بنطاف دجلة وسناء الضحى ونور البدر، يصطبح ويغتبق ويعبث بحرمات الحياة في شغل عن دنيا الآلام الرفيعة والأمجاد والوصاية على مقدرات الأمم حتى (تكشفت له عن عدو في ثياب صديق) كما قال هو!
بلى! إنهما وجهان للسكر في الحياة بإدمان الشراب ذي العنصر الواحد الذي يجعل المدمن ينظرني من جانب واحد)