للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سأل (م) أي فرق ترى بين زهرات تطأها فتذويها، ونمال تعركها بقدمك فترديها، وفرقة من الجند تصفعها بالحديد والنار يوم الوغى فتوردها موارد الحتوف. . .؟ فلا بأس يا صديقي أن نعيد الحديث بعد عام كامل، في مماشي حديقتك وفي ليلة الهجرة؛ أفيكون غرور الإنسان حقاً هو الذي. . .

فقاطعت صديقي قائلاً: كفى، كفى، فلم أعد أميل إلى مثل هذا الجدال وإنه لعقيم، فلقد قرأت في صدر شبابي كل ما أتت به اليوم معجب مفتون، واجتزت عهداً أراك تجتاز مثله الآن، عانيت فيه ما عانيت من كرب وضيق. وكم قرأت وقرأت، فكنت أتلون بما أقرأ كأني حشرة حقيرة تدب على ظهر الأرض وتسعى، فتصفر إن كانت تحبو فوق الرمال، وتحضر إن كانت تزحف فوق الحقول. كنت أقرأ الشكاك فأشك، ثم أقرأ المؤمنين فأومن. . . هذا كتاب متشائم أطالعه فإذا أنا الساخط الناقم على حياتي ودنياي. وذلك كتاب متفائل أطالعه فإذا أنا الهاش الباش المرح الطروب؛ لكن أراد الله بي الخير فأفقت إلى نفسي فوجدتها مضطربة هائمة تعصف بها الريح هنا وهناك، وهي في كل ذلك تعاني من القلق والهم ما تعاني، وهداني الله سواء السبيل. أتريد أن تسمع مني - إذن نصح الخبير؟

فقال: أحبب إلى نفسي بما تقول!

فقلت: إني منتزع لك القول من هذا اليوم الخالد؛ فنصيحتي أن تهاجر كما هاجر الرسول

قال: وكيف وأنت أعلم الناس بأمري، فمالي بغير هذا البلد مأرب ولا عيش

قلت: لئن هاجر الرسول الأمين في عالم المادة، فهاجر أنت في عالم الروح

قال: وماذا تريد بهجرة الروح

قلت: لقد هاجر النبي الكريم بمعنى الرحلة من بلد إلى بلد، فهاجر أنت بمعنى الرحلة في مكتبتك من رف إلى رف! لقد أوذي النبي الكريم في مكة فهاجر إلى المدينة، فجاءه نصر الله والفتح، ورأى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وهاأنت ذا تؤذيك أباطيل العقل في بعض الكتب فدعها إلى سواها، لعلك بذلك منتقل من ضلال العقل إلى إيمان القلب حيث السكينة والقرار. ولقد كانت هجرة النبي مولداً جديداً لرسالته، فأرجو أن تكون هجرتك من كتب إلى كتب بعثاً جديداً لروحك المعذب الظمآن. إن من ابتل جسمه بالماء وهو في البحيرة مغمور لا بد له من الخروج إلى الشاطئ المشمس إن أراد لنفسه الدفء والجفاف.

<<  <  ج:
ص:  >  >>