أما أن يثب من البحيرة إلى البر فقد ازداد بلة على بلة، وذلك ما صنعته أنت حين أرقتك فلسفة صديقنا (م) فطلبت النجاة في كتب الفلسفة!
إني مذ أراد الله لي الهداية أكره أن أناقش مسائل الدين بمنطق العقل، ولكني لا أزال ألمح في عينيك حيرة الشك، مما سمعته من سخرية صديقنا بروح الإنسان وخلودها، فدعني لحظة أخاطب فيك الفطرة والبداهة، فأقول: أليس أمل الإنسان في خلوده بعد الموت دليلاً على خلوده؟ إن رغبة الإنسان في الطعام ما كانت لتوجد لو لم يكن الطعام موجوداً، ورغبة الإنسان في زمالة الأصدقاء يستحيل أن تنشأ إن لم يكن إلى جانب الإنسان الواحد ناس يزاملونه ويصادقونه؛ فالزهرة والنملة فانيتان وهما لا تنشدان خلوداً، أما الإنسان فراغب فيه ساع إليه، ويستحيل أن يكون له ذلك ما لم يجد في فطرته وجبلته ما يوحي إليه أنه خالد؛ فلماذا لا يستوحي صديقك (م) فطرته بدل أن يلقى بسمعه وفؤاده إلى هذا وذاك؟ أإذا اهتدى بوحي البصيرة إلى الحق أنكره، لأن غيره لم يجد السبيل إلى الهدى؟ إنه إذن كمن يحدج ببصره في الشمس ساطعة فينكرها لأن زميله المكفوف لم يرها!
ألم تقرأ عن (مذهب الذرائع) الحديث الذي يصور آخر ما بلغه العقل الفلسفي؟ إنه يقيس صدق الفكرة أو بطلانها بمقدار نفعها؛ وذلك لأن الحق المطلق في رأيه معدوم، فإن أدت الفكرة إلى نجاح الحياة الإنسانية وازدهارها فهي الحق، وإلا فهي كذب وباطل. فلنسأل صديقنا المتفلسف: أيهما أنفع للحياة الدنيا نفسها أن يعتقد الإنسان في خلوده أو في فنائه؟ أي العقيدتين يؤدي إلى الفضيلة والخير؟ فإن كانت الأولى فحسبنا ذلك وليس بنا بعدئذ حاجة إلى لجاجة وجدال. . .
كلا يا صديقي، لا تلق بنفسك في هذه الشكوك التي قد تغري بها غاشية الحرب، فيتجهم أمام ناظريك الأفق وإنه لمشرق وضاح؛ بل هاجر كما هاجر الرسول الأمين، ولتكن الليلة موعداً لهجرتك
هل جاءك حديث الإمام الغزالي وهو (حجة الإسلام وزين الدين)؟ لقد قرأ إبان نشأته ما قاله الحكماء والفلاسفة، فارتجت له نفسه وأخذه الشك من كل جانب. اقرأ له (المنقذ من الضلال) لتستمع إلى قصته عن نفسه يروي لك ما قاساه في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق، مبتدئاً بعلم الكلام، ومنتقلاً بعد ذلك إلى دراسة الفلسفة، ومنهياً بطريق