الصوفية، خائضاً في كل ذلك بحر الخلاف، متوغلاً في كل مظلمة، متهجماً على كل مشكلة، فاحصاً عن عقيدة كل فرقة ومذهب؛ وهو يقول إن التعطش إلى درك حقائق الأمور كان دأبه وديدنه من أول عمره، غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلته من غير اختيار منه؛ فلما أدت به دراسته الطويلة العميقة إلى حيرة الشك، (حزن قلبه، وانحطت صحته، ثم التجأ إلى الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، فأجابه. . .) وعاد إلى الإمام المؤمن يقينه (ولم يكن ذلك بنظم دليل، وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق رحمة الله الواسعة)
ثم هل جاءك نبأ (تولستوي) ذلك الأديب الفحل، والفيلسوف العظيم؟ إنه غاص في أغوار الفكر وغاص، ثم انتهى به الأمر أن يفرغ مكتبته من كل ما فيها على أنه باطل وهراء، ولم يبق على رفوفها سوى الكتاب المقدس وبعض الكتب الدينية! لقد جثمت على صدره أزمة نفسية، كالتي ألمت بإمامنا الغزالي، فأحس كأن شبحاً مخيفاً يطارده، واسودت الدنيا في عينيه، وبلغ به اليأس والقلق حداً بعيداً، فأخفى عن نفسه (بندقية) الصيد خشية أن يصوبها إلى صدره في ساعة من ساعات القنوط؛ وقال عن نفسه على لسان شخص من أشخاص قصصه:(لم يعد لدي شك في أني - ككل كائن حي - لن أصيب في هذه الدنيا غير الألم يعقبه الموت والفناء)، وشرع (تولستوي) يقلب صفحات الكتب الفلسفية ذات المذاهب المختلفة، فيستطلع آراء أفلاطون وكانت وشوبنهور وباسكال لعله واجد فيها ما يرد له الطمأنينة بعد حيرة وقلق، لكنه تبين أن آراء هؤلاء الحكماء - كما يقول - (واضحة جلية دقيقة حينما تبتعد عن مشاكل الحياة المباشرة، ولكنها لا تهدي الحائر سواء السبيل، ولا تبعث الطمأنينة إلى القلوب الضالة القلقة) ولم يلبث (تولستوي) أن هجر الأدب ثم الفلسفة، واتجه إلى الدين لعله يجد في نوره الهداية واليقين؛ فلئن عجز العقل عن هداه فليلجأ إلى القلب، ودعا ربه قائلاً:
(اللهم هبني إيماناً قوياً أملأ به قلبي، وأهد إليه غيري)
هاجر يا صديقي كما هاجر الرسول الأمين. لقد هاجر النبي الكريم بمعنى السفر من بلد إلى بلد، فهاجر أنت بمعنى الرحلة في مكتبتك من رف إلى رف. لقد أوذي النبي الكريم في مكة