ولا ريب أن لغة التخاطب ولغة الكتابة أو لسان العامة ولسان الخاصة كانا متقاربين في عهد الجاحظ ولم يكن بينهما ما بين الفصيحة والعامية اليوم. ولكن الفكاهات إذ ذاك كانت كما هي اليوم لا تصلح للنقل من لغة إلى أخرى. قال الجاحظ:
(ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من كلام الإعراب فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها. فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام وملحة من ملح الحشوة والطغام فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير لها لفظاً حسناً الخ)
وكذلك يقول قدامة بن جعفر في كتاب نقد النثر:(وللفظ السخيف موضع آخر لا يجوز أن يستعمل فيه غيره. وهو حكاية النوادر والمضاحك وألفاظ السخفاء فإنه متى حكاها الإنسان بغير ما قالوه خرجت عن معنى ما أريد بها وبردت عند مستمعها).
(٤) وبعد فلا ينبغي أن تسف لغة الآداب العالية إلى مستوى العامة بل يجب أن ترقى العامة إلى مستوى لغة الآداب أو ما يقرب منه. على أن هذا التباعد بين ما يسميه الأستاذ (الأدب الأرستقراطي) وما نسميه (الأدب الشعبي) مظهر واحد من مظاهر الاختلاف بين عامتنا وخاصتنا، بين الفريقين تفاوت عظيم في العقل والمعرفة والأزياء والمساكن وطرائق المعيشة. ولا بد من تقريب المسافة بين العامة والخاصة في هذا كله قبل أن يشتركا في لغة واحدة ويستمتعا بأدب واحد فإن الأدب الصحيح ترجمان معيشة الأمة.