تقديس المصلي القانت وحدب الحارس الأمين وروح الطفولة ومناجاة الخطر المقبول وهيام الروح المنهوم بالحياة والجمال: عالم لا نظير له فيما نسمع من غناء الطير بهذه الديار)
هذا الوصف الرائع من العقاد لا يفوقه موسيقية وجيشانا، ولا يدق عنه معنى واحساسا، ولا يزيد عليه تصرفا وافتنانا إلا نظم العقاد.
وأشعار (هدية الكروان) كسابقها في وحي الأربعين، تنزع إلى الموسيقى في تقطيع أوزانها وعذوبة نظم ألفاظها ولطف وجدانياتها. تخلق حولك جوا من الموسيقى الرفيعة الساحرة تشيع روحها وتشيع حتى تملأ عليك الفضاء وتملك منك المشاعر، وحتى لتحس ان الموسيقى ليست لشعره أداة تعبير فحسب، بل هي عنصره الصميم
وأظهر ما تظهر هذه الميزة في أنشودة (ما احب الكروان) فقد افترق الشاعر وصاحب له فتراه يواعده النجوى واللقاء على البعد عند سماعها هتفات الكروان:
ما أحب الكروان!
هل سمعت الكروان؟
موعدي يا صاحبي يوم افترقنا ... حيث كانت جيرة أو حيث كنا
هاتف يهتف بالأسماع وهنا ... هو ذاك الكروان! هو هذا الكروان!
الكراوين كثير أو قليل ... عندنا او عندكم بين النخيل
ثم صوت عابر كل سبيل ... هو صوت الكروان! في سبيل الكروان
لي صدى منه فلا تنسى صداك ... هو شاديك بلا ريب هناك
فإذا ما عسس الليل دعاك ... ذاك داعي الكروان، هل أجبت الكروان؟
مفرد لكنه يؤنسنا ... ساهر لكنه ينعسنا
واحد أو مائة ترجعه ... عندنا أو عندكم مطلعة
ذاك شيء واحد نسمعه ... في أوان وبيان، هو صوت الكروان
واحد بين عصور وعصور ... نحن نستحي به تلك الدهور
لم يفتنا غابر الدنيا الغرور ... في أوان الكروان، ما احب الكروان
وقد ألم الشاعر ببضع لمسات من ريشته المنغومة في خفة وإيجاز بليغ بحركة الكروان