وطفراته في مطاره، وسرعة انتقاله هنا وهناك في الفضاء الداجي، فلا تكاد تسمعه من بعيد إلا ويصبح أقرب قريب، ولا تكاد تقول مع الشاعر: هو (ذاك) الكروان حتى تردف كما أردف: هو (هذا الكروان وحتى تجمل معه هذين معاً فتقول: هو صوت عابر كل سبيل
ولما كانت هذه الأنشودة من مستوحيات الإلهام في لحظاته النادرة، فقد اجتمع فيها ما توسع الشاعر في تنويعه وترجيعه في غيرها من القصائد الجزلة والأناشيد المطربة. وتطيب لنا الإشارة إلى مواضع هذا الترجيع تنويها بطبيعة الشاعر المطبوع الذي يعيش في معانيه! وتعيش معانيه في منبت مريع التربة خصيب فهي لا تني فيه أبداً متفتحة نامية، وأنفاسها أبداً خفاقة مرددة، وحرارتها أبداً مذكوة متجددة.
فلا غرو إذن إذا رأيت هذه الإشارة إلى طفرات الكروان يرددها الشاعر بين آن وآن، موضحا موكداً:
بينا أقول هنا، إذا بك من هنا ... في جنح هذا الليل أبعد باعد
لوددت يا كروان لو ألقيت لي ... صوتين منك على مكان واحد
وكما المع الشاعر في أنشودته إلى أنك لا تدري عند سماعك هتافات الكروان المتقطعة المنتقلة المتشابهة، أهو واحد أو مائة، فقد ترنم بهذا المعنى في مقطوعة صغيرة هزجة النبرات متجاوبة الأصداء
ألف صدى لهاتف ... منفرد على الذرى؟
أم ألف شاد رددت ... هتافها مكررا؟
أم ذاك روح أطلقو ... هـ في الدنى محيرا
فردوها مستغربا ... وطافها مستبشرا
فلا يقال مقبل ... حتى يقال أدبرا؟
هن كراوين الليا - لي أو فقل هو الكرا
وفي عزلة هذه الليالي الساجية يساهر شاعرنا هذا الطائر الساهر، ويأنس به ويصغي لدعواته، وقد يهفو أحيانا على جناح الفكر، فيذكر الطيور المغردة في الفجر فيجري على لسانه:
لهجت طيور بالضحى وتكفلت ... بالليل حنجرة المغني الخالد