يغفل أفلوطين أمر النفس في تاسوعاته، وشغل بوجه خاص بهبوطها من العالم العلوي واتصالها بالعالم السفلي ورغبتها الدائمة في أن تعود إلى مقرها الأصلي. ولفلاسفة القرون الوسطى المسيحيين وخاصة أوغسطين وتوماس أبحاث مختلفة في حقيقة النفس ووظائفها. إلا أن هؤلاء جميعاً لا يبدو عليهم الشغف بهذا الموضوع مثل ما شغف به أبن سينا، فإنه يعود إليه غير مرة ويقف عليه جملة رسائل مستقلة، ويتحدث عنه في كل كتبه الرئيسية التي وصلت إلينا. ففي كتاب القانون المعروف يبين قوى النفس المختلفة على طريقة الأطباء ويشير إلى الصلة بينها وبين الجسم. وفي الشفاء يعقد فصلاً مستفيضاً يفصل فيه أراءه النفسية، وفي النجاة يلخص هذا الفصل ويصوغه في قالب مدرسي محكم، وفي الإشارات ينظم في نحو عشرين صفحة عقداً من مسائل علم النفس كله درر قيمة وآيات بينة. وله تعليق على كتاب النفس لأرسطو لا يزال مخطوطاً حتى اليوم ولم يقنع بهذا، بل كتب رسالة قيمة في القوى النفسية أهداها للأمير نوح بن منصور الساماني، ورسالة أخرى في معرفة النفس الناطقة وأحوالها، وشرح هبوطها إلى الجسم وحنينها إلى مصدرها الأول في قصيدة مشهورة.
كنا نتوقع وأبن سينا هو الطبيب والفيلسوف أن يستخدم طبه في دراسة الظواهر النفسية وأن يستعين بالملاحظة والتجربة على شرحها وتوضيحها فينمي معلوماتنا ويخطو بنا إلى الأمام في سبيل هذا البحث الدقيق. ولكنه، فيما يظهر: كان يعتقد أن الفصل في مشاكل علم النفس ليس من عمل الطبيب ولا من دائرة اختصاصه، بدليل أنه يشير في القانون إلى بعض نقط متصلة من نفس وقواها قد اختلف فيها الأطباء والفلاسفة، ويصرح بأن الكلمة كلمة الآخرين. وإن استيفاء هذه النقط إنما يتم في كتبهم والواقع إن التجارب المنظمة والأبحاث العلمية الدقيقة المتصلة بالنفس أثر من آثار التاريخ الحديث وحده، بل القرنين الأخيرين فقط، وفي وسط طبي حضر فيه التشريح وحرم من الأدوات الحديثة لم يكن في الإمكان دراسة المخ والجهاز العصبي دراسة تجريبية كاملة. ولا نكاد نحظى بباحث بين المسلمين نحى هذا المنحى التجريبي فيما وراء أبن الهيثم الذي أدلى بآراء في الضوء والرؤية تقترب مما جاء به فيبير حديثاً. وأما ما يذهب إليه أبن سينا من تقسيم المخ إلى مناطق تقابل قوى النفس المختلفة ومن ملاحظات فيسيولوجية شيء فهو ترديد لما قال به