سألني الطالب الأديب عن قصة الجارية التي كانت تضرب بالدف بين يدي النبي، فما هو إلا أن دخل عمر حتى وجمت الجارية وأسرعت إلى الدف تخفيه. فقال النبي إن الشيطان - أو إن شيطانها - ليخاف منك يا عمر!
وموضع العجب عند الطالب النجيب أن تعمل الجارية في حضرة النبي ما لا تعمله في حضرة الفاروق.
ولا عجب هناك؛ فإن كل ما هنالك من الفرق بين الأمرين أن الجارية أنست إلى سماحة النبي، ولم تأنس إلى شدة عمر. ولا غرابة في الشدة هنا أو السماحة هناك.
والكلام في هذه القصة عن شيطان الأغاني والشعر والأهازيج: أي عن شيطان الفنون على الإجمال، وليس شيطان الفنون في حكم الدين أو الأخلاق كشيطان المعاصي والشرور.
والمرجع - بعد - في هذه القصة إلى الجارية ومن تأنس إليه. وقد تغني جارية في حضرة السلطان، ولا تغني في حضرة رئيس الشرطة مثلا أو قائد الجيوش، ولا يقال إن هذا أو ذاك أعظم عندها من السلطان. فإنما المسألة كلها في هذه المواقف مسألة الأنس والارتياح. وليس لنا أن نسأل مغنياً أو فناناً، لماذا يرتاح إلى هذا المقام، ولا يرتاح إلى ذلك المقام.
ولم يكن عمر رضي الله عنه يحرم ما أحله النبي عليه السلام في هذا الصدد. فقد قرأ الطالب الأديب ولا شك أن عمر سمع ضجة في مكان فقيل له إنه عرس. فقال: هلا حركوا غرابيلهم: أي طبولهم. فلا تحريم في الأمر ولا تحليل، وإنما هو كما قدمنا مسألة ارتياح (شخصي) لا يحاسب عليه صاحبه بحساب الإلزام.
وسأل الطالب الأديب كذلك عن قصة الأسود بن شريع، الذي كان ينشد النبي بعض الأماديح، فاستنصته النبي مرتين إذ دخل عليهما عمر والشاعر لا يعرفه. فصاح: واثكلاه! من هذا الذي أسكت له عند النبي؟ فقال النبي: هذا عمر. هذا رجل لا يحب الباطل.
ويسأل الطالب. كيف يقبل النبي ما لا يقبله الفاروق؟
وينبغي أن نعرف أولا ما هو معنى الباطل المقصود في هذه القصة. فإن الباطل قد يكون بمعنى المزاح: يقال بطل في حديثه بطالة أي هزل ومزح. وقد يكون بمعنى الشيء الذي لا غناء فيه، أو الشيء الضائع، أو الشيء الذي تقل جدواه، وقد يكون مقابلا للحق مقابلة الشيء وما لا يشبهه، لا بمقابلة النقيض للنقيض.