علم وأدب وفكاهة، لا تذكر مسالة إلا كان له عنها جواب، ولا تثار مشكلة إلا اشرق له فيها رأى، ولا تروى حادثة إلا ورد له عليها مثل، ولا يحضر ندوته أديب مطلع إلا جلس فيها جلسة المستفيد، ثم كان في غير مكتبه ومجلسه يشارك في معارف فلسطين بعمله، وفي المحافل الأدبية بخطبة وفي المساعي الخيرية بماله. ثم اقلع منذ أربعة عشر عاما عن شهوات الجسد فلم يبق له من لذاذات العيش إلا الكتاب العربي والسكارة التركية. ولكن إسرافه على شبابه أعقبه علة في شعاب الرئة جرت إليه الربو؛ واصطلحت هاتان العلتان على القلب طيلة عشر سنين حتى أضعفتاه، ومن هنا جاءت منيته.
كان النشاشيبي جاد الله بالرحمة ثراه رجل وحده في الأسلوب والخط والحديث والتحصيل اسلبه عصبي ناري تكاد تحس الوهج من الفاظه، وتبصر الشعاع من مراميه. وخطه نمط عجيب بين الكوفي والتعليق لم يأخذه عن أحد ولم يأخذه منه أحد. وحديثه نبرات قوية تبرز الألفاظ، وحركات سرية تمثل المعاني، وانفعالات شتى تتعاقب على قسمات وجهه وأصابع يده. وتحصيله عجب من العجيب؛ لا تستطيع أن تذكر له كتابا من كتب العربية لم يقراه ولا بيتا من شعر الفحول لم يحفظه، ولا خبرا من تاريخ العرب والإسلام لم يروه، ولا شيئا من قواعد اللغة ونوادر التركيب وطرائف الأمثال لم يعلمه، فهو من طراز أبي عبيده والمبرد ولذلك كان اكثر ما يكتب تحقيقا واختيارا وأمالي. ثم كان إلى كل أولئك متواضع النفس فكه الأخلاق لطيف الروح، نفاح اليد، عفيف اللسان، مأمون المغيب لا يتعزز بحسبه ولا يطاول بماله، ولا يباهي بعلمه، ولا يفخر بشيء مما يتمدح به الناس إلا بالانتساب إلى العرب والانتماء إلى محمد! أن النشاشيبي كان خاتم طبقة من الأدباء اللغويين المحققين لا يستطيع الزمن الحاضر بطبيعته وثقافته أن يجود بمثله فمن حق المحافظين على التراث الكريم، والمعتزين بالماضي العظيم، أن يطيلوا البكاء على فقده، وأن يرثوا الحال العروبة والعربية من بعده!