كان له إلى جانب الوحي فيها تفكير ونظر واجتهاد؟ ذلك ما نريد معالجته في هذا البحث.
يرى بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله فقط. تنحصر مهمته في تبليغ الوحي وما يتصل به من بيان على الوجه الذي ضمنه الله بقوله (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه).
ويرون أن صفة الرسالة فيه غلبت على صفة البشرية، وأنه عليه الصلاة والسلام تمحض في استعداده لحمل الرسالة وتبليغ الأمانة، معتمدين في ذلك على ما فهموا من قوله تعالى:(إن هو إلا وحي يوحى) بعد قوله: (وما ينطق عن الهوى).
رأوا هذا ورتبوا عليه أن كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم شريعة من الله رب العالمين، لها صفة الدوام والبقاء إلى يوم الدين، والناس مخاطبون بها في كل زمان ومكان، لا يجوز لهم أن يحيدوا عنها قيد شعرة، ومن حاد عنها أو سوغ لنفسه أن يتصرف فيها، فذلك خارج على شريعة الله، مخالف عن أمر الله، غير جدير بأن يكون من المؤمنين.
يقولون ذلك ويتشددون فيه، ولا يفرقون بين أقواله وأفعاله وأحكامه وأقضيته وسائر تصرفاته في العبادات والمدنيات والجنائيات والطب والسياسة والحروب والعادات والزي واللباس وآداب الطعام والشراب والجلوس والسير في الطريق وما يكون من الأحوال الشخصية والمسائل الجنسية وغير ذلك، فكل هذا وحي من الله، بعضه ظاهر وببعضه باطن، وكله شرع محكم، ودين متبع لا يجوز الخروج عليه، ولا التصرف فيه.
وقد تجد قوماً منهم يستثنون من ذلك بعض الأشياء التي لا تتصل بالنواحي التشريعية كرأيه صلى الله عليه وسلم في تأبير النحل، أو في اختيار مكان ينزلون فيه للحرب أو نحو ذلك، ولكنهم حين يتحدثون عن هذا الاستثناء يحتاطون في الأمر تمام الاحتياط، فيضيقون دائرته ولا يتوسعون فيه.
لقد جاءت الشريعة الإسلامية (بالاجتهاد)، وأمر الله عباده أولي الأبصار بأن يعتبروا، وينظروا، ويتدبروا كتابه الكريم، وقد كان الاجتهاد سنة الأنبياء والمرسلين من قبل، والقرآن يحدثنا بذلك عنهم كما في شأن يحيى إذ أتاه الله الحكم صبياً، وكما في قصة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم. وقد ذكر الله جملة من أنبيائه ورسله، وأثبت لهم جميعاً هذا المعنى بقوله:(أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة)؛