ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الآيات نفسها:(أولئك الذين الله فبهداهم أقتده).
فالنبي إذن مأمور بالسير على سنة الأنبياء والمرسلين من قبله، مأمور بأن يقتدي بهديهم، وهذا أمر تقضي به طبيعة الأشياء، لأنه لا يعقل أن يرسل الله رسولاً في وقت نبغت فيه الإنسانية، واشتد ساعد الفكر البشري، ثم يحرمه النظر والتفكير الذي أباحه لإخوانه الأنبياء في طفولة الدهر وشباب الزمان، وأباحه أيضاً لمتبعيه الذين يدعوهم إلى دينه ويأمرهم بالعمل بشريعته.
كيف يسوغ لأحد أن يقول بحرمان النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد، وهو مرتبة علمية من أسمى مراتب الفطنة البشرية والبصيرة الإنسانية؟ أيمنحها الله لذوي العقول وأرباب البصائر ثم يحرمها على الإنسان الكامل؟
كأني بهؤلاء يرون رسالة الرسول أمراً يتعارض مع بشريته. ولقد كان صلى الله عليه وسلم مع رسالته وقبل رسالته بشراً اكتملت فيه جميع معاني البشرية الفاضل. ولم يشأ الله أن يرسله حتى بلغ أربعين عاماً لتنضج بشريته وتكمل رجولته، فلا تطغى عليها الرسالة ولا تسلبها خصائصها. وقد عنى القرآن الكريم بأن يؤكد هذا المعنى في كثير من آياته:(سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً). (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى ألي). ومن زعم أن رسالة النبي قد غلبت على بشريته وقضت على لوازمها السامية فقد تلاقي في رأيه من قريب أو من بعيد بالذين يقولون (أبعث الله بشراً رسولاً)
إن النبي صلى الله عليه وسلم بشر وفي أسمى مراتب البشرية، وقد اكتسب في ذلك شخصية الفقيه المجتهد كما منح شخصية الرسول المبلغ عن الله. وهو (أول الفقهاء) كما أنه (خاتم الأنبياء). فلننظر إذن فيما ورد عنه صلى الله عليه وسلم على هذا الأساس الذي يجمع بين الرسول والفقيه
اقتضت حكمة الله أن يسوس عباده، ويحقق مصالحهم بنوعين من التشريع: نوع يتولاه بنفسه وينص فيه على ما يريد ويرسل به الوحي إلى نبيه. ونوع آخر (يسكت عنه) فلا ينص عليه غير نسيان ولا إهمال، ولكنه (رحمة بعباده) يكله إلى أصحاب الرأي والنظر لاختلاف المصلحة فيه باختلاف الظروف والأحوال. وقد قام (محمد النبي) بحق رسالته فبلغ النوع الأول كما أمره بتبليغه. وقام (محمد الفقيه الأول) بحق بشريته: رسم طريق