وفيما هو كذلك وإذا به في أمسية من أماسي الربيع الساجية أمام شخصية بعيدة الصيت هي شخصية السيد أحمد الفيض آبادي التي اشتهرت بالنبل وسمو الأخلاق، وقد تسربت إلى الفتى إشاعات بأن هذه الشخصية مزمعة أن تفتتح معهداً لتعليم الناشئة ما يصلح مستقبلهم في معاشهم وفي معادهم. فيتقدم بالفتى أستاذه ومربيه إلى هذه الشخصية، ويجري بينهما حوار لا يتذكر الفتى الآن أكان قصيراً أم طويلاً، ولكنه يتذكر على كل حال أنه كان حواراً ممتعاً رصعت حواشيه بالبسمات وحسن التفاهم، وتبودلت خلاله عبارات المجاملة والتقدير. وكان الفتى طيلة جلوسه بين يدي الشيخين المتحاورين يحدق النظر ملء عينيه وبقلبه أيضا إلى هذا الرجل الذي بدأ يستشعر له الحب والتقدير برغم بساطة مظهره وتواضعه. وسرعان ما علم الفتى من أستاذه عقب افتراق الرجلين أنهما - في تلك الجلسة الرزينة الهادئة - قد وضعا تصميم الاتفاق على دخول أستاذ الفتى في المدرسة الجديدة الناشئة رئيساً للمدرسين بها، كما علم أنه قد فتح له باب عهد جديد بما تقرر من أن سيكون ضمن طلاب هذا المعهد في عهده الأول.
ومن الحق أن نقول: إن قلب الفتى قد امتلأ غبطة بهذا النبأ السار الذي يحمل في طياته تحولاً جديداً في مجرى حياته بما سيفتح له من أجواء معرفة أوسع مدى من المعرفة التي هو بسبيلها.
وبقدر اغتباط الفتى بهذه الناحية كان اغتباطه أيضا لما أدركه - عقب دخوله المدرسة - من أن المدير قد قرر صرف مكافآت شهرية للطالبين بقدر جدهم وتفوقهم. . . ولم لا يغتبط الفتى بهذه الإعانة التي ستمهد له قسطاً وافراً من حياة الاستقلال الذاتي، وتساعده على التفرغ لتحصيل العلم؟. . . فهو وإن يك مكفي الشؤون لدى مربيه الذي هو خاله وابن عمه وأستاذه، إلا أنه مع ذلك كان يشعر من زمن الطفولة الغضة أنه يتيم، ومن دأب اليتيم أن يشعر بأنه في حاجة رتيبة إلى المعونة المادية الوافرة ضماناً لتحسين حاله في المستقبل الغامض المجهول.
وقد ازداد جهد الفتى وتضاعف إقباله على التحصيل، وواصل ليله بنهاره، ولم يرض مطلقاً إبان دراسته إلا أن يكون الأول في كل الاختبارات، وآثر النصب على الراحة، وأعرض بالكلية - وما كان من قبل مقبلاً - عن ألوان اللهو والمتع التي كانت تستهوي