وكان الفتى مغتبطاً بهذا العهد الجديد أيما اغتباط، وقد شعر المدير بما يحمله قلبه من حرص واجتهاد، فما قصر في إغداق المساعدات عليه، وحباه بمختلف الرفد والمعونة، وصار يعهد إليه، فوق ذلك، ببعض المهام زيادة في تنشيطه ورفعاً لمستواه الفكري في ميدان الأعمال الإدارية والاجتماعية.
وقد ظل على ذلك المنوال حتى إذا أكمل مقررات الدراسة العالية دخل فحصاً طويلاً مرهقاً، ويخرج منه وقد نال أرقام الدرجة الأولى في أغلب العلوم والفنون، وبذلك أخذ الشهادة العالية في طليعة من أخذها.
وكم كان اغتباط المدير بنجاح الفتى ونجاح زميله معه، هذا النجاح الباهر المرموق، وكان الفتيان الزميلان يمثلان وحدهما (الفوج الأول) من متخرجي هذا المعهد. . . وفي أيام الاختبار الذي تخرج منه الفتى لوّح المدير له بأنه سيعينه عقب نجاحه مدرساً معيداً بالمدرسة غير أن ضرورات اجتماعية دعت الفتى إلى أن يقبل وظيفة كتابية بديوان إمارة المدينة المنورة، وقد أحس يومئذ بشيء من وخز الضمير تجاه مديره الذي طالما عطف عليه فذهب إلى داره مبكراً ليقدم إليه جميل العذر، فالعذر مقبول عند كرام الناس، وانه ليصافحه إذ يسأله في تأثر:
- أحق أنك وظفت في الديوان؟!. . .
- أجل يا مولاي، ولقد قضت بذلك ضرورات اجتماعية، وسأخدم المعهد الذي له عليّ فضل وافر، وأنا خارج عنه، أكثر مما أخدمه وأنا فيه.
وكانت هذه الجمل التي خرجت من قلب الفتى يتهدج بها صوته في نبرات الصدق والإخلاص والوفاء بلسماً لتأثر المدير الوقور، فهتف قائلا:
- سنرى ما يكون من البر بوعدك الذي اقتطعته على نفسك.
وتلا ذلك صمت أدرك الفتى منه أن المياه قد عادت إلى مجاريها أو كادت، فيستأذن منصرفاً إلى تأملاته في الحياة والأحياء، ماذا كان أمره من قبل وإلى ماذا صار؟ وإلى ماذا سيؤول هذا الأمر؟ ولكنه لم ينس قط لا في تلك اللحظة الدقيقة العابر، ولا فيما تلاها من لحظات وساعات وشهور وسنين، واجب البر بوعده الذي اقتطعه على نفسه يومئذ لتلك