فإذا انتقلنا إلى العراق الذي نخصه بهذا الحديث لم نجده بدعاً بين الأمم والشعوب، وإنما نجده يتأثر في عاداته وتقاليده بما يخضع له من تيارات جوية واجتماعية واقتصادية.
وهل يمكن أن يتم التشابه بين أهل البصرة وأهل الموصل في كل شيء؟
إن الذي يطلب ذلك يصح في ذهنه أن يتشابه (الصعايدة) و (البحاروة) في كل شيء، وذلك غير معقول.
تقدَم الموصل فتروعك سنابل الحِنطة وهي تتموج في واسعات الحقول، وتقدَم البصرة فيروعك النخيل الذي يعد بألوف الألوف.
وتدخل بغداد فترى فيها سمات من الشَّمال وسمات من الجنوب.
فهل نستطيع بعد هذا التمهيد أن نجد صوراً خاصة من صور الحياة في بغداد؟
إن الصور التي تنفرد بها بغداد كثيرة جداً، ولكن كيف نبرز الملامح من تلك الصور الخصوصية؟
هنا أشعر بأن الوصف أصعب ضروب البيان، ولكني سأحاول رسم ما رأت عيناي من الصور البغدادية.
وأبدأ بالحديث عن أذواق أهل بغداد في تنظيم السهرات.
وكلامي في هذه القضية يحتاج إلى سناد مما قرأتم في كتب الأدب والتاريخ، وأنتم قد قرأتم أن البغداديين كانوا مولعين بالموسيقى والغناء. فاعرفوا اليوم أن هذه النزعة لا تزال حية في بغداد، ومن النادر أن تقوم سهرة بلا غناء.
ويظهر جمال هذه العادة اللطيفة إذا تصورتم ما يقع في دجلة أيام الصيف. ولدجلة من هذه الناحية منظر أخاذ حين تمسي ملعباً للسفائن الخفيفة الروح التي تحمل أفواج اللاهين واللاعبين وبأيديهم آلات الطرب وفي قلوبهم مشاعل الوجد المشبوب.
وأنتم تذكرون أن الجاحظ نص على استكراه المغنّي الوَسط فاعرفوا اليوم أن لذلك صلة بالحياة العراقية. فكل إنسان في العراق يرى من حقه أن يغني، وكان الأمر كذلك لان جو العراق يهيج الشجون. وقد حدثتكم مرة بأن العراق هو البلد الوحيد الذي لا تنقطع فيه الحمائم عن النواح.
ومن أجل هذا أيضاً نص أدباؤهم وفقهاؤهم على آداب الوجد والسماع والشراب، لأن