فيضاً من اللذة؛ على حين لا يجد راكب السيارة إلا الخوف في كل نظرة، وإلا الخطر في كل كرَّة!
أنظر! هذا الذي تراه واقفاً بعربته أمام الدار عامل من عمال (أورزدي باك). طلبنا من هذا المتجر بالتليفون بعض متاع البيت وحاجة العيش، فأرسله بالسيارة، وتسلمه الخدم، ولم نجد نحن الذين كلفتنا هذه الصفقة عشرة جنيهات ما كان يجده المشترون المتذوقون من لذة الانتقاء وفرحة الاقتناء وغبطة القدرة
هذه (العملية) التي لم تستغرق غير ساعة من النهار كانت في حياتنا القروية الذاهبة تقتضي من الزمن أسبوعاً ينقضي بين سوابق اللذة وآثارها مذهَّب الأطراف بالأحلام، مطرز الحواشي بالصور، لا تكاد الأسرة تفيق من نشوته ولا تنتهي من حديثه!
دعني أَعُد بالذاكرة إلى حدود الماضي البعيد فأذكر لك كيف كان رجال القرية يشترون حاجة عامهم من السوق. كان بين القرية والمنصورة ساعة ونصف بالحمارة السريعة، فأصبح بينهما اليوم ربع ساعة بالسيارة البطيئة! وكان القوم متى باعوا القطن أكثروا الحديث عن المتاع والكسوة والمنصورة، فتتهيأ الأذهان من قبلُ للسوق كما يتهيأ قلب المؤمن في رمضان للحج، وفكرُ (المتمدن) في أبريل للاصطياف. فإذا جاء يوم السوق الذي تواطأ رجال (الحارة) على الامتياز فيه، كان كل شيء على تمام الأهبة: فالبرادع المنجدة على الحمير، والإخراج المخططة على البرادع، والعصيُّ الدقيقة في الأيدي الغليظة، والدنانير الذهبية في الأكياس العميقة، والفطائر الدسمة في المقاطف الوعيبة، وكبير (الحارة) قد تنفس عليه الصبح وهو على حماره في جرن القرية يحبس المتقدم ويستحث المتأخر؛ حتى إذا اجتمعت العِير واكتمل العدد ساروا في سكة السوق سطراً منضوداً يتناسق على نظام المقام والسن. وتسمع ضوضاءها من بعيد فتحار أذنك بين الكلام والضحك والنهيق وحث المطايا بالزجر والضرب، واصطكاك الحوافر بالتراب والحصى. فإذا بلغوا (طلخا) أودعوا حميرهم في (الوكالة) وهي (الجراج) بلغة اليوم، ثم وضعوا الإخراج على المناكب ومضوا صامتين إلى المعبر يركبون منه الفُلك إلى شاطئ المنصورة
وهنا يرفضُّ عن القوم النشاط والزياط والجرأة فيخشعون خشوع الطائر المهيض، لأن