النيل غير الترعة، والسفينة غير النورج، والمدينة التي يسكنها الأفندية غير القرية التي يخيفها كلها أفندي واحد! هاهم أولاء يخرجون من ضيق القارب إلى زحمة الشارع فيمشون في سَواء الطريق أو على إفريزه سلاسل سلاسل يتماسكون عند الخوف، ويتكومون لدى الهلع، ويتصايحون عند الشتات، ويقفون اللحظة بعد اللحظة ريثما يعود الشارد ويلحق المتخلف، حتى ينزل بهم الدليل على (الخواجة) المقصود، ننزل الغيث على الثرى المجهود، فيجلس الكهول على الكراسي، والشباب على الأرض؛ وينشر تاجر القماش وعماله الأثواب المختلفة على عيونهم الشاخصة وأيديهم الفاحصة، فيختلفون على النوع أو على اللون أو على السعر، فتعلو الأصوات، وتعنف الحركات، وتطول المساومة، حتى تخور القوى وتصحل الحناجر ويذهب الوقت فيقبلون أخيراً كل نوع يُعرض، ويرضون كل ثمن يُفرض!
ثم يقومون للغداء فيتخيرون شارعاً غير مطروق يجلسون حلقاً على حاشيتيه ويأكلون فطائرهم بالحلاوة والعنب والبلح وهم فرحون مبتهجون، ثم يعودون إلى البدال والعطار فيستأنفون النزاع على الصنف والسعر حتى يغشاهم الليل فيخرجون من سوق (الخواجات) بُجْرَ الإخراج والغرائر لا يهتدون في النور، ولا يأنسون بالناس، ولا ينتبهون للدليل، فينقطع الضعيف، ويضل الغافل، ويكون عند المعبر افتقاد ونشدان وضجة!
فإذا خلصوا بما معهم من المدينة والنهر واقتعدوا ظهور المطىّ ونشقوا نسيم الحقول انبسطت المشاعر وانطلقت الحناجر فخاضوا في أحاديث السوق، وأفاضوا في أعاجيب البندر، وادعى كل منهم أنه كان أبصر بالبضاعة وأخبر بالسعر وأقدر على الخواجة!
وكان شباب القرية قد انتشروا مع الظلام في طريق العودة يلقون العير ويكفونها مخاوف الليل. وكان نساء الغائبين وأطفالهم يتراقصون على أنغام المنى، ويتسمعون على السطوح لجب القافلة. فإذا دخلت البلد قابلوها بالزغاريد والأناشيد، وقضت (الحارة) معظم الليل في أكل البلح ومص القصب وتساقي الحديث. ثم يصبح الصباح فتفتح الحقائب وتوزع الكُسى وتفرق الهدايا، وتغرق هذه الأسر في فيض من الفرح والمرح مدى أسبوع!
الواقع يا صديقي أن السرعة محنة هذه الحضارة. وذلك أنها وفرت على الناس الصحة وأخرت عنهم الموت حتى نموا وكثروا، فمنهم يتزاحمون على موارد الرزق، ويتسابقون