فأجبتها والخجل يكسر من طرفي ويعقد من لساني: ربما كان مرجعه إلى الاثنتين معا!
وكانت تنظر إلى لهب النار يرقص واريا بين وقود المدفأة، فحولت في دهشة وسرعة وجهها إلي وثبتت نظرها في، وقالت: كيف؟! ألم تكن عقيدتهم اليوم هي العقيدة التي ألفت من شتات البدو دولة، وبعثت من جوف الصحاري حضارة، ونفخت في قلوب الصعاليك من روح الله فطمحوا إلى ملك كسرى وهم جياع، وسموا إلى عرش قيصر وهم عراة، وصمدوا إلى حكم العالم وهم سذج؟
ألم تكن طبيعتهم اليوم هي الطبيعة التي تكرمت عن الدون، وتجافت عن الهون، وتسامت إلى القدر الخطير، وتمردت على الطغيان المستبد، وجعلتهم يضعون أنفسهم في كفة، والعالم كله في كفة، فسموا - كما علمت منك - من عداهم بالعجم، كما سمى الرومان من عداهم بالبربر؟
فقلت لها: كلا وا أسفاه! ليست العقيدة هي العقيدة، ولا الطبيعة هي الطبيعة! كانت عقيدتهم كما قلت سامية تبعث الطموح، صافية تكسب الخلوص، بسيطة تنتج الرفاق، جامعة توجب الوحدة؛ توفق بين الدين والدنيا من غير كلفة، وتصل بين الله والإنسان من غير واسطة، فاختلط بها في القرون الأخيرة شعوذة الهنود وأساطير اليهود وصوفية الفرس ولاهوتية اليونان، فأصيبت بالخدر الذاهل والتواضع الجبان، والزهد الكسول، والاتكال المخلف، والجدل العقيم، والاختلاف المفرق؛ ثم تبخر من هذا الخليط المشوه إكسير الحياة فلم يبق إلا الرواسب الغريبة، وتصعد منه عبير الروح فلم يبق إلا الأوراق الجفيفة؛ فالدين اليوم شعائر من غير شعور، وتقليد من غير فهم، واعتقاد من غير تطبيق، وشعوذة من غير حقيقة، وأحكام من غير حكم.
وكانت طبيعتهم كما قلت أبية تأنف الضراعة، طماحة تكره القناعة، وثابة تحاول التفوق، طلاعة تحب المغامرة؛ فامتزجت بها من بعد الفتوح دماء الأجناس المملوكة، وأدواء الأمم المنهوكة، وأوباء الأقاليم القصية؛ ثم قرت فيها صبابة الأحقاب، وانتهت إليها نفاية الأعقاب، وناءت بها أعباء التقاليد. فالعقلية الإسلامية اليوم مشوبة غير صريحة، معقدة غير واضحة؛ وهي من عبث الأحداث متنافرة لا تلتئم، متخاذلة لا تقاوم.
إنما العقيدة الخالصة والطبيعة السليمة لا تزالان في بوادي الحجاز وهضبات نجد؛ ولكن