الجاحظ فيها ما فيها من التهكم المر، والتقريع اللاذع، والتعريض الذي لا يطاق استهزاء وسخرية!!
ولقد كان هذا التهكم هو سلاح الجاحظ أيضاً وعدته في التقريع الحشويين وأهل التزيد، والذين يفترون الأخبار الغثة، ويلفقون الأحاديث الكاذبة، ويروجون القصص التافهة، ثم هم يحشرون ذلك في الدين، ويلصقونه بالأخبار النبوية الشريفة، ويسندونه في الرواية إلى الأصحاب الأخيار، والرواة الثقاة، كمثل ما زعموه عن كبد الحوت، وقرن الشيطان، وتنادم الديك والغراب، ودفن الهدهد أمه في رأسه فأنتنت ريحه، وتسبيح الضفدع، وطوق الحمامة، ودخول إبليس إلى سفينة نوح في جوف الحمار، وما أسندوه إلى ابن عباس من أن الحجر الأسود قد نزل من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج فسودته خطايا أهل الشرك، ثم ما تحدثوا به عن السيدة عائشة بشأن الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع فأكلتها داجن للحي حين شغلوا بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان الجاحظ يستنكر هذه الأخبار وأشباهها، ويحكيها في سخر بالغ، وتهكم قارص. وتستطيع أن تقف على ذلك وأمثاله في كتابه (الحيوان) في كل موضع يفرغ فيه الرجل لبعض خرافات القوم ومزاعمهم. وقد تجده لا يعنى بتفنيد هذه المزاعم ولا يهتم بأدحاضها لأنها ظاهرة السخافة والبطلان، ثم هو يعقب عليها بكل تهكم واستهزاء، ويختمها بالعبارة القصيرة الموجزة تأتي عليها من القواعد. فمثلا تجده يحكي أقوال (صاحب المنطق) عن التزاوج والتلاقح بين بعض الحيوانات وبعضها، فيسترسل الجاحظ في الحكاية، ثم ينتهي إلى التعليق عليها فيقول:(وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل، وما يليق بمثله أن يخلد على نفسه في الكتب شهادات لا يحققها الإمتحان، ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء، وما عندنا في معرفة ما ادعى إلا هذا القول!) ثم يخرج بعد ذلك إلى بعض خرافات القوم التي تتعلق بالحيوانات، ثم يتهكم بها فيقول:(ولولا أني أحببت أن تسمع نوعاً من الكلام! ومبلغ الرأي، لتحدث لله تعالى شكراً على السلامة، لما ذكرت لك شيئاً من هذا الجنس.)
فبهذا الأسلوب التهكمي اللاذع كان يتذرع الجاحظ في كثير من نواحي فنه؛ وبهذا الأسلوب التهكمي اللاذع كان يأخذ في دعابته ومزحه فيبلغ الغاية من إرضاء الفن، ويسمو إلى الذروة في إمتاع القارئ. وعجيب أمر بعض أبناء العربية الذين يشدون من الأدب إذ تراهم