يطيرون بفن الكاتب الفرنسي (فولتير) فيبالغون في سخريته، ويمتدحونه بلذاعته، ويثنون على عبقريته في التهكم، وما أحسبهم يعرفون ذلك للجاحظ أو يعترفون به، وأنهم لو علموا لتعجبوا من جهد كاتب العربية واقتداره، ولراحوا يتلمسون تلك الناحية من فنه فيما له من كتب وآثار، وهم لاشك واجدون متاعهم ولذتهم، واقعون على أربهم ومبتغاهم، ثم هم لا جرم سيعترفون له بما يعرفون (لفولتير) وأضرابه. وسنرى الجاحظ في أحاديثهم وكتاباتهم منعوتا بالكاتب الساخر، وما يجري مجرى هذا النعت
وتعال إلى الرجل في شيء من دعاباته الساخرة. فإنك واجده على ما ذكرنا - حلوا مستساغا، قويا قادراً قد تمكنت في طبعه ملكة السخر، وتمت له موهبة التهكم، فإذا أخذ بعض الأشخاص بالتصوير (التهكمي) فهو يقدم لك صورة الدقيقة الرائعة التي تثير في نفسك كل ما يمكن من معاني الضحك والفكاهة، والسخر والتهكم، والعطف والإشفاق، والنفور والبغض. ألا تراه وهو يتندر على سهل بن هرون في بخله وشحه فيقول:(قال دعبل الشاعر: أقمنا عند سهل فلم نبرح حتى كدنا نموت جوعا. فلما اضطررناه قال: يا غلام ويلك غدنا! قال فأتانا بقصعة بها مرق فيه لحم ديك، وليس قبلها ولا بعدها غيرها، لا تحز فيه سكين ولا تؤثر فيه الأضراس، فاطلع في القصعة وقلب بصره فيها، ثم أخذ قطعة خبز يابس، فقلب جميع ما في القصعة حتى فقد الرأس من الديك، ثم رفع رأسه إلى الغلام فقال: أين الرأس؟ قال لم أضنك تأكله. قال: ولأي شيء ظننت أني لا آكله؟ فوالله إني لأمقت من يرمي برجليه، ولو لم أكره ما صنعت للطيرة والفأل لكرهته! فإن الرأس رئيس، وفيه الحواس، ومنه يصدح الديك؛ ولولا صوته ما أريد؛ وفيه قرنه الذي ينبرك به، وعينه التي يضرب بها المثل في الصفاء فيقال. شراب كعين الديك؛ ودماغه عجيب لوجع الكلية. ولم أر عظما أهش تحت الأسنان من عظم رأسه. فهلا إذ ظننت أني لا آكله ظننت أن العيال يأكلونه؟ وإن كان بلغ من نبلك أنك لا تأكله فإن عندنا من يأكله. أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح ومن الساق ومن العنق، فانظر أين هو؟ قال والله ما أدري أين رميت به. قال: لكني أدري: إنك رميت به في بطنك والله حسيبك)
وقد تكون هذه النادرة من مرويات دعبل حقاً، وقد تكون من اختراع الجاحظ وابتداعه، وإنما حمله على تلفيقها ما كان بينه وبين سهل من الشنآن، ثم عزاها لدعبل ليخلص من