للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فتخرج الشعوب عما رزحت تحت أعبائه من ضيق في ناحية الحقائق وسعة في ناحية الخيال، وتسخر الطبيعة بما فيها من قوى كامنة وساكنة لانتفاع الناس بها بعد أن كانت مصادر الهيلم في وادي الظنون والأوهام.

غير أن المدنية وقد نفذت من المادة إلى داخل النواة فأخرجتها بمظاهر مختلفة فيها منافع للناس، قد وقفت دون المشاعر فلم تأخذهما إلا بطرف يسير، لا تفتأ فيه أن تنقلب إلى ما كانت عليه متى أثيرت في النفوس تلك الغرائز التي تحيا في قاعها، وتعمل على إحياء السيرة التي كان عليها الإنسان في أول عهده بالحياة، فكانت هناك بقية مما يتصل بالروح بعيدة عما هي لصيقة بالمادة، وفي هذه الشقة يضيع التوازن ويحل الاضطراب.

واليوم، وبعد أن قامت الحرب على قدم وساق ولما تزل قائمة تتردد في أسماعنا أصوات الذين أشعلوها وما زالوا يمدونها بالوقود؛ وهي تحمل نغمات الوعد بإحلال السلام بعد إنهاء الحرب وإحراز النصر؛ ولكن فاتهم أن السلام شيء غير مجرد الكلام وأن نزع السلاح لا يضع خيراً ولا يرفع شراً، وأن أصل الداء فيما نحن عليه من عقائد وأفكار وأخلاق تحدث خروقاً كثيرة في مدنيتنا الحديثة.

لقد أردنا من المدنية أن تقينا شرور الطبيعة وأن نجد على راحتها الشفاء من كل داء، ولكن فاتنا أن المدنية التي لا تقدر على حماية نفسها من الدمار لا يمكن أن تصون غيرها مما يخشى الوقوع فيه. وما دامت المدنية لم تكن في تقوى فيه على رد كل يد، تخرج عليها مما حولها ومما عندها، فإن الإنسان ولا ريب غير بالغ ما يريد الوصول إليه من إملاء الحياة بالحياة وطبع الأيام على حد السلام.

إن للمدنية يداً دخلت المواد كلها، ولكنها صنعت فيما صنعت تلك القلاع الطائرة التي تحمل الموت الزؤام، وتلك البروج المتحركة التي ترمي بشرر كالقصر، ومن وراءها ضروب من الوسائل التي تنشر الموت والخراب، ونحن بعد ذلك أولو مدنية وفي تطور إلى الأمام!

أنا لا أنكر أن للمدنية فضلا سابغاً على بعض المرافق وفي بعض الجهات، ولكنه فضل غير جامع وغير مانع لما يظهر من نقص وافتقار. لقد أعطتنا المدنية الحديثة متعة بما ابتكرته من وسائل الترفيه وفنون المسرات، ولكنها لم تنقص من أطراف ما يدخل الناس من هموم وأحزان، وإنما زادتها أضعافاً مضاعفة، وكانت الحياة سلوة أبنائها، لا يشترون

<<  <  ج:
ص:  >  >>