للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قلت: هذا صوت صارخ في البرية، فهل للشيخ أن ينصحني؟

قال: لا تعجل، فإن لكلامي بقية قليلة. وفي القليل بلغة

فأصغيت إليه، فمضى يقول: فأما العمل للدنيا بالنسبة إليّ، فإني احرث الأرض وازرع في بستان ورثته من آبائي أرضاً قاحلة، وأتعفف عما في أيدي الناس، ولا أمد عيني إلى مال؛ وبمنتوج بستاني وعمل يدي احفظ على كرامتي، واشتري ورقي وحبري وكتابي وثوبي وطعام عيالي، وارفع رأسي موفور العزة في عشيرتي وأهل بلدي؛ فهل من تقصير لدي بعد هذا في أمر الدنيا؟

قلت: كلا. لقد أوفيت يا شيخي.

قال: وأنصحك يا صاحبي - ولعلك في غنى عن النصح - أن تكون ذا دين، فأني لأشم في رائحة كتبك هذه التي تحمل بين يديك في رحلتك، التي لا اعرف منها الغاية والمدى، شيئاً أراه فوق التجدد الذي أنشده - مع من ينشده - لكم معشر الشباب فقد يصح لكم التجدد على طريقة معتدلة لا تمس الدين، ولا تذهب بالقومية مذاهب الفناء والدمار؛ ولكن غير هذا لا يصح.

قلت: يا شيخي! الآن كنت تنادي بالاختصاص، فقد فهمت أنك من حماة الدين الذي لن تمسه بسوء أن شاء الله، وأن كنت أقرا كتباً تجادل فيه، فلكي استطلع طلع المجادلين واعرف مقالاتهم.

قال مقاطعاً:

للرد عليهم ولا شك.

فقلت مستمراً في قولي: ولكني أراك في قولتك الأخيرة متطرقاً إلى القومية، فهل لي أن افهم رأيك الواحد في النحلتين.

قال: بلي؛ فأنا قومي بعد كوني مسلماً. وإذا ادعيت مع المدعين أن للعرب الفضل الأكبر في هذه الحضارة العتيدة، فلن أخطئ الهدف من الصواب. وأنت تعلم أن أجدادنا نشروا ثقافتهم في آسية وأشاعوا علومهم في أوربة صعداً من الأندلس وأسسوا في بلادهم المدارس، وسافروا إلى أقاصي البلاد في سبيل العلم، بعد أن نقلوا إلى اللغة العربية كثيراً من الكتب العلمية، ونقحوها وهذبوها أصولاً وفروعاً، وأضافوا إلى بعضها، فاصبح زمام

<<  <  ج:
ص:  >  >>