المسافات الواسعة. فإذا رأينا (الظروف) في لغة من اللغات فنحن إذن أمام ناس متصرفين غير محدودين، أو أمام عقول تستنبط الفهم من بواطنها ولا تنتظر حتى يقال لها: أفهمي هذا هكذا، وافهمي ذاك على ذاك المثال
وأحسب أن (الظروف) تقل، وأن العقول تعجز عن التصرف لسبب من سببين:
أحدهما طول عهد الاستبداد، فيتعود العقل إملاء الأوامر عليه وإسناد الفرائض إليه، فيصدع بما يؤمر ويطيع ثم لا يتصرف، وينتظر الإرشاد والتسديد في كل خطوة وعند كل طارئ جديد
والثاني نشأة الأمة في بيئة محدودة لم تتشعب فيها مسالك العمران ومذاهب التفكير، فكل ما فيها فروق كبيرة بارزة، ومسافات بعيدة شاسعة، فلا محل فيها للفرق الدقيق ولا للدرجة الصغيرة ولا للمسحة المترددة بين الألوان
وأنت تستطيع أن تفتح (معجم) اللغة من اللغات فتعرف نصيبها من الحرية أو من سعة العمران بتلك العلامة التي لا تخطئ، وهي علامة (الظروف) المصوغة أو التي تسهل صياغتها من الأسماء والأفعال
يضحك الإنسان ضحكة السرور، وضحكة الألم، وضحكة التشفي، وضحكة التهكم، وضحكة الرصانة، وضحكة الطيش، وضحكة المعرفة والحكمة، وضحكة الجهل والبلاهة، وضحكة القوة والعزة، وضحكة المجون والاسترخاء؛ وكله ضحك إذا نظرت إلى اسمه في اللغة. . . فماذا يفيد هذا الاسم إن لم يميزه مميز من الظروف؟
وتقول مثلاً في عنوان مقال أو قصيدة:(شجاعة الجبن) فيفهم العقل المتصرف أو عقل (الظروف) معنى ما تقول
أما العقل المغلق أو عقل الحدود الحاسمة فيعجب حتى يغرب في الضحك ويسخر ممن يلقي إليه بذلك العنوان، لأن المسألة عنده إما شجاعة وإما جبن ولا يلتقيان. وليس في علمه أن الجبن قد يؤدي إلى الإقدام بعض الأحيان، وأن الجبان والشجاع في بعض المواقف سيان
ومن هنا كان استغراب الجامدين لما كانوا ينعتونه (بالتفرنج) من تلك العناوين، وما هو بالتفرنج ولا بالوصف الموقوف على الفرنجة، ولكنه وصف شائع بين جميع العقول التي