بالآثار، فأمعنت التحديق في تلك الجنبات التي عاشت في تضاعيفها وجوفها خيالات الأقدمين وأطيافهم، وبقيت روعة الأطلال والآثار تدل عليهم، وقد برزت من بعيد تلك العمد الفرعونية ولاحت من بين أعمدة النخيل فقلت: يا لله كأني الساعة أمضي بقطار حلب فأمر ببعلبك، وأرى عمد هيكلها الروماني تتراءى من بعيد من بين أشجار الجوز والمشمش، ورحت أذكر أرضاً على وجه الشرق تعاورت عليها الأمم من رومان وإغريق وفراعنة وفينيق، حتى بسط عليها الإسلام جناح الأمن والرحمة ووهبت لها العروبة لغة القرآن، فكان عليها خير أمة أخرجت للناس، وما نقلني من تهاويل هذا الخيال سوى بشرى الرفيقات باقتراب الوصول إلى أسوان.
وأسوان بلدة دون سعة صيداء - لبنان، تساير ضفاف النيل في مبانيها وحدائقها، وإنها لشعرية الطبيعة، هادئة المقامة، هفهافة النسيم.
على رؤوس رجالها عمائم بيض لاثوها كأنهم الهنود، ونساؤها ملتفات بالسواد ضاربات على وجوههن بخمر مصرية، سجنت الخدين وأطلقت العينين.
هنالك دعينا إلى متنزهات على النيل، فبدا ثمة نهر مصر كما يسميه أهلوها بحراً رحيب الصفحة مترامي الساحة، وحملنا ذات صباح مركب بشراع مال بنا مترنحاً على خطرات الريح، فذكرت تحت شراعه وصف شوقي (النيل نجاشي والفلك حمامة بيضاء بجناح واحد) وسألت نفسي كيف يزهد شعراء مصر وهم غنية الأدب يوصف هذه المباهج والمغاني كما زهد شعراؤنا بالشام في وصف طبيعتها ومفاتنها، وما مصر سوى النيل الذي وهب لها البركة والحياة وكتب لها المجد والخلود، فلو أحصى ما قال الفرنسيون عن نهر السين وحده لجاء أكثر من ديوان، وما نظم القدامى والمحدثون من أمم الحضارة والثقافة في وصف بلادهم تضيق به الأسفار الضخام.
ذلك دأبنا نحن الشرقيين، فننا في جيوبنا دفين، وشعورنا في جمال أرضنا وسمائنا مكبوت أو كمين. ذكرت هذا في السفينة الشراعية التي نقلتنا إلى جزيرة الملك بأسوان، التي اشتملت على حديقة واسعة فينانة، ذات أدواح باسقة عتيقة، وأشجار لفاء مثمرة حديثة الزرع أفريقية المنشأ، وقد التفت غصونها وتكاثفت أوراقها، وحشدت في الحديقة أفواف الزهر ونسقت مغارسها يد صناع، وفي هذه الجزيرة الغناء تناثرت طالبات الفنون على