ألا ما أعظمَكِ يا مصر، وما أعظمَ تعنُّتَكِ في هذا السحر الفاتن! أينبغي أن يغتربَ كلُّ أهلك حتى يدركوا معنى ذلك الحديث النبويّ العظيم (مصرُ كِنانةُ الله في أرضه.) فيعرفوا أنك من عزّتك معلَّقةٌ في هذا الكون تعليقِ الكنانة في دار البطل الأرْوع؟
قال (الدكتور محمد): واجتمعنا في الدار التي أنزلُ فيها، فراع ذلك صاحبةَ مثْواي، فقلت لها: إنَّ ههنا ليلةً مصرية ستحتلُّ ليلتكم هذه في مدينتكم هذه، فلا تجزعوا. ثم دعوتها إلى مجلسنا لتشهد كيف تَسْتَعْلِنُ الروح المصرية الاجتماعية برقّتها وظرفها وحماستها، وكيف تُفسّر هذه الروحُ المصريةُ كلّ جميل من الأشياء الجميلة بشوقٍ من أشواقها الحنَّانة، وكيف تكون هذه الروحُ في جوّ موسيقيتها الطبيعية حين تُناجي أحبابها، فيجئ حديثُها بطبيعته كأنه ديباجة شاعر في صفائها وحلاوتها ورنين ألفاظها؟
وقالت السيدة الظريفة: يالها سعادة! سأتخذُ زينتي، وأصلح من شأني، وأكون بعد خمس دقائق في مصر!
قال الدكتور: وأخذنا في شأننا، وكان معنا طالبٌ حسن الصوت فقام إلى البيانة وغَنى مقطوعة (طقطوقة) مصرية من هذه المقاطيع التي تُطقْطِقُ فيها النفس، فجعل يَمطُلُ صوتَهُ بآهٍ، وآه، ودار اللحنُ دورةً تأوهت فيها الكلماتُ كلُّها. ثم اعْتَوَرَ البيانة طالبٌ آخر فما شذَّ عن هذه السنَّة، وكان بعد الأول كالنائحة تُجاوب النائحة. فمالت عليّ السيدة الفرنسية وأسَرّت إليّ: أهاتان امرأتان أم رجلان. . .؟ فقلت لها: إن هذا لخنٌ تاريخي ذو مقطوعتين كانت تَتَطارحُهكليوباترة وأنطونيو، وأنطونيو وكليوباترة. فأعجبت المرأة أشد الإعجاب، وأكبرتْ منا هذا الذوقَ المصريّ أن نكرمها لوجودها في مجلسنا بألحان الملكة المصرية الجميلة، وطرِبتْ لذلك أشدَّ الطرب، ومَلَكها غرور المرأة، فجعلت تستعيد (يا لوعتي، يا شقاي، يا ضَنىَ حالي. . .) وتقول: ما كان أرقّ كليوباترة! ما كان أرقّ أنطونيو! يا لَفِتنةِالحب الملَكي!. .
قال (الدكتور محمد): ثم خجلتُ والله من هذا الكلام المخنَّث، ومن تلفيقي الذي لفقته للمرأة المخدوعة؛ فانتفضْتُ انتفاضةَ من يملؤه الغضب، وقد حَمِيَ دمُه، وفي يده السيفُ الباتر، وأمامه العدو الوقْح؛ وثُرْتُ إلى البيانة فأجريتُ عليها أصابعي، وكأنّ في يدي عشرة شياطين لا عشرة أصابع، ودوّى في المكان لحنُ (اسلمي يا مصر) وجَلْجَلَ كالرعد في قبة