الدنيا، تحت طِباق الغيم، بين شرار البرق. فكأنما تَزَلْزلَ المكان على السيدة الفرنسية وعلينا جميعاً، وصَرَخَ أجدادُنا يزأرونَ من أعماق التاريخ:(اسلمي يا مصر). ولما قَطَعتُ التفتُّ إليها في كبرياء تلك الموسيقى وعظمتها، وقلتُ لها: هذا هو غناؤنا نحن الشبان المصريين.
ثم راجعنْا صاحبَنا الضيف، وأحفَيْناه بالمسألة، فقال بعد أن دافَعَنا طويلاً: إنه يحسن شيئاً من الموسيقى، وإن له لحناً سيُطارحنا به لنأخذه عنه. فطرِنا بلَحنه قبل أن نسمعه، وقلنا له: افعلْ متفضلاً مشكوراً، وما زلنا حتى نهض متَثاقلاً فجلس إلى البيانة وأطرق شيئاً، كأنه يُسوِّي أوتاراً في قلبه، ثم دَقَّ يتشاجَى بهذا الصوت:
أضَاعَ غَدي من كان في يَدِهِ غدي ... وحَطّمني من كان يَجْهَدُ في سَبْكِي
فإن كنتُ لا آسى لنفسي فَمَنْ إذن؟ ... وإن كنتُ لا أبكي لنفسي فمن يَبكي
قال (الدكتور محمد): فكان الغناء يَعْتلجُ في قلبه اعتلاجاً، وكانت نفسه تبكي فيه بكاءها وتَغصُّ من غصتها، وكأن في الصوت فكراً حزيناً يَستعلن في همٍّ موسيقى؛ وخيل إلينا بين ذلك أن البيانة انقلبت امرأة مغنية تُطارح هذا الرجل عواطفها وأحزانها، فاجتمع من صوتهما أكملُ صوت إنساني وأجملُه وأشجاه وأرقّه.
فأطَفْنا به وقلنا له: لقد كتمْتَنا نفسك حتى نَمَّ عليها ما سمعنا، وما هذا بغناء، ولكنه هموم مُلَحَّنةٌ تلحيناً، فلن ندعَك أو تُخَبِّرَنا ما كان شأنك وشأنها.
فاعْتلَّ علينا ودافَعَنا جهدَه، فقلنا له: هيهات؛ والله لن نُفْلِتَكَ وقد صِرتَ في أيدينا. وإنك ما تزيدُ على أن تَعظنا بهذه القصة؛ فإن أمسكت عنها فقد أمسكتَ عن موعظتنا، وإن بخلت فما بخلتَ بقصتك بل بعلمٍ من علم الحياة نُفيدُه منك؛ وأنت ترانا نعيش هاهنا في اجتماع فاسد كلُّه قصص قلبيّة، بين نساء لا يَلْبَسنَ إلا ما يُعرّي جمالَهن، وفي رجال أفرطتْ عليهم الحرية، حتى دخل فيها مَخدعُ الزوجة. . .!
قال الدكتور: ونظرت فإذا الرجل كاسِفٌ قد تَغيّر لونُه، وتبين الانكسار في وجهه، فألممت بما في نفسه، وعلمت أنه قد دهي في زوجة من هؤلاء الأوربيات اللواتي يتزوجن على أن يكون مخدع المرأة منهن حراً أن يأخذ ويدع، ويغير ويبدل، ويقسم كلمة (زوج) قسمين وثلاثة وأربعة وما شاء. . .