الهمذاني يجمع في كتابه (الألفاظ الكتابية) العبارات المختارة من جاهلية وإسلامية ورأينا الحصري يملأ كتابه (زهر الآداب) بفصول يعنونها (ألفاظ لأهل العصر) يجمع تحتها ما اخترعته أهل عصره من تعبير رقيق وتشبيه أنيق. ونهج المؤلفون بعد هذا المسلك حتى كانت خاتمتهم إبراهيم اليازجي في كتابه (نجعة الرائد وشرعة الوارد) جمع فيه أحسن العبارات والألفاظ مما قال السابقون والمحدثون إلى عصره.
وبعد، فلو قارنا بين الأدب العربي الحديث، والأدب الغربي في هذا الباب، أعني باب العبارة، وجدنا في أدبنا العربي قصوراً ظاهراً، وضعفاً بيناً.
ذلك أن الأدب الغربي ساير الزمن، واعترف بكل ما حدث فيه، واستمد منه، على حين أن الأدب العربي الحديث أغمض عينه عن كل ما كان، ولم يعترف بوجوده. نظر الأدب الغربي إلى ماضيه وحاضره ومستقبله؛ ولم ينظر الأدب العربي إلا إلى ماضيه. وزّع الأدب الغربي لفتاته لينظر نظرة شاملة وثبَّت الأدب العربي عينيه فيما وراءه، فلم ينظر إلا إلى قديمه، فكان ناقصاً، لا يسايرنا ولا يصفنا ولا يمس حياتنا، وإنما يمس حياة آبائنا.
اعترف الأدب الغربي بالأدب القديم فأخذ منه خيره، واعترف بالدنيا الحديثة فاستمد تشبيهاته واستعاراته منها، رأى في دنياه مخترعات ومستكشفات لا حد لها من كهرباء ومواد كيميائية وطيارات وغواصات وغازات وأضواء وراديو وما لا يحصى كثرة. كل هذه الأشياء قلبت الحياة الاجتماعية رأساً على عقب. فلماذا لا تقلب الأدب؟ فأقبل الأديب عليها يتعرفها، ويستلهمها تشبيهات واستعارات عصرية طريفة، كان له منها ما أراد.
ورأى الأديب علم النفس ينمو ويرقى ويحلل أعمال الإنسان تحليلاً علمياً دقيقاً، ويعرض لكل المظاهر اليومية من ابتسامة وعبوس ورضى وغضب، فأخذ بحظ وافر منه واستعان به في أدبه وتعبيراته حتى استطاع أحد الكتاب الفرنسيين (وهو مارسل بروست أن يحلل ابتسامة سيدة في ست صفحات، ورأى نُظماً في الحكم تقوم وأخرى تسقط وكان لها من الأثر في حياة الناس وعقليتهم ما يخيل إليك معها أنهم أصبحوا بها خلقاً آخر، فجعل يتتبع هذه التغيرات ويقتبس منها ما شاء ذوقه الأدبي.
كل هذا وأمثاله جعل الأدب الغربي يسير محاذيا لكل نظم الحياة ويشاركها في رقيها واتجاهها، إن استضاء الناس بمصباح كهربائي فالأدب يعبر عنه ويستعير منه ويشبه به،