الأطعمة، وعدم الاكتفاء بما تدر الأرض بطبيعتها؛ فيزرع ويستغل كامن قواها. يخشى هجمات الوحوش الضاربة، وعدوان القبائل المعادية؛ فيتخذ العدة لذلك بصنع الأسلحة مستخدماً كل ما تقع عليه يده من أحجار وأشجار ومعادن. وهو إذ يفعل ذلك يهتدي بذكائه، بتفكيره العملي الذي يتطور مع الزمن تطوراً يكشف عنه ما لاحظه العلماء المنقبون عن آثار العصور البائدة من تطور الآلة الإنسانية من الآلة الحجرية القديمة إلى الحجرية الحديثة إلى المعدنية؛ والأسلحة من الأحجار إلى النبال فالخنازير والسيوف فالبنادق حتى القنبلة الذرية في العصر الحديث.
وهكذا في كل ميدان من ميادين الحياة يستخدم الإنسان تفكيره وسيلة لتحقيق أغراضه، وهذا هو الأصل في التفكير: وظيفة حيوية عملية تعين الحيوان على الصمود في الحرب الخالدة بينه وبين قوى العالم الطبيعي التي لا تعرف التراجع، وذلك أن الفطرة وحدها لا تكفل انتصاره.
بيد أن اختلاف التفكير الإنساني عن التفكير الحيواني ليس اختلافاً في المرتبة أو الكمية فحسب؛ بل هو اختلاف في النوع أو الكمية أيضاً. فتفكير الحيوان عملي كله، هو برمته وسيلة إلى العمل، إلى الحياة والبقاء. لا يستغل الحيوان قدرته العقلية المتواضعة إلا في إرضاء مطالبه الغريزية: من الاغتذاء، والاحتماء، وحماية الصغار، والتناسل الخ. أما الإنسان فبعد إرضاء مطالبه الغريزية يستغل قواه العقلية في الكشف عن أسرار ما يدركه من ظواهر الكون والبحث عن علل الحوادث التي تقع تحت ناظريه، وتفسير التغيرات التي تطرأ على مختلف الكائنات. ولا شك أن الحيوان كالإنسان فطر على حب الاستطلاع لكل جديد تجنباً لما قد ينطوي عليه من خطر، أو طمعاً فيما قد يدره من خير ونعمة؛ ولكن الإنسان يتجاوز هذه الحدود النفسية فيستطلع أحياناً من أجل المعرفة في ذاتها، ويجني من وراء ذلك لذة لا تقل عن اللذات الجسدية التي يجنيها من وراء إشباع ميوله الغريزية الأخرى.
لذلك كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفكر أحياناً من أجل التفكير في ذاته، بل والذي يجاوز ذلك إلى التفكير في التفكير: يحصي أساليبه ويفتش عن مصادره، ويسجل أخطاءه، وينقب عن أسباب الوقوع في الخطأ، ويعدد السبل الموصلة إلى المعرفة. والإنسان عند ما