مدارج الحيوانية الأولى، في الشعور والسلوك، وفي تقويم الحياة وتقويم الأشياء
فأما ابتداع الآلات، أو تسخير القوى، أو صنع الأشياء، فليس له في ذاته وزن في ميزان القيم الإنسانية، إنما هو مجرد رمز لقيمة أساسية أخرى: هي مدى ارتفاع العنصر الإنساني في الإنسان، ومدى الخطوات التي يبعد بها عن عالم الأشياء، وعالم الحيوان. أي مدى ما أضاف إلى رصيده الإنساني من ثراء في فكرته عن الحياة، وفي شعوره بهذه الحياة
هذه القيمة الأساسية هي موضع المفاضلة والوازنة بين حضارة وحضارة، وبين فلسفة وفلسفة؛ كما أنها هي الرصيد الباقي وراء كل حضارة، المؤثر في الحضارات التالية، حين تتحطم الآلات وتفنى الأشياء؛ أو حين تنسخها آلات أجد وأشياء أجود، مما يقع بين لحظة وأخرى، في مشارق الأرض ومغاربها
وإنه ليبدو أن العبقرية الأمريكية كلها قد تجمعت وتبلورت في حقل العمل والإنتاج، بحيث لم تبق فيها بقية تنتج شيئاً في حقل القيم الإنسانية الأخرى. ولقد بلغت في ذلك الحقل ما لم تبلغه أمة، وجاءت فيه بالمعجزات التي أحالت الحياة الواقعية إلى مستوى فوق التصور ووراء التصديق لمن لم يشهدها عيانا. ولكني (الإنسان) لم يحفظ توازنه أمام الآلة، حتى ليكاد هو ذاته يستحيل آله؛ ولم يستطع أن يحمل عبء العمل المنهك ثم يمضي قدماً في طريق الإنسانية، عندئذ أطلق للحيوان الكامن العنان؛ ضعفاً عن أن يحمل عبء العمل وعبء (الإنسان)!
وإن الباحث في حياة الشعب الأمريكي ليقف في أول الأمر حائراً أمام ظاهرة عجيبة، قد لا يراها في شعب من شعوب الأرض جميعاً: شعب يبلغ في عالم العلم والعمل، قمة النمو والارتقاء، بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق مدارج البشرية الأولى؛ بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك!
ولكن هذه الحيرة تزول بعد النظرة الفاحصة في ماضي هذا الشعب وحاضره، وفي الأسباب التي جمعت فيه بين قمة الحضارة وسفح البدائية:
في العالم القديم آمن الإنسان بقوى الطبيعة المجهولة، وصاغ حولها الخرافات والأساطير؛ وآمن بالدين، وغمرت روحه أضواؤه ورؤاه؛ وآمن بالفن وتجمست أشواقه ألواناً وألحاناً وأوزاناً. . ثم آمن بالعلم أخيراً، بعد ما انقسمت نفسه لأنماط من الإيمان، وألوان من