أبعد أن تغلغل على طول القرون هدى الله في الغرائز والأخلاق والقوانين والنظم ففازت الحرية، وسادت الديمقراطية، وعلت الإنسانية، يمكن أن تقوم في العالم اليوم نِحلة مجرمة الوسيلة والغاية كنِحلة النازية تحتقر أجناس الناس، وتنكر حقوق الشعوب، وتزدري قواعد السلوك، وتستحل في سبيل السيطرة والغلب الغدر والمكر والكذب وغش السياسة ونقض العهود وإنكار المذهب!
ليت شعري ماذا يقول أحفاد لوِثَر وكَنْت وجوته وبيتهوفن وقد رأوا زعيمهم الأديب الفنان يقول بلسان دولته ولا يصدُق، ويعاهد بشرف أمته ولا يفي، ويجعل من شعبه الصبور العامل غولاً للسلام يقذف الرعب في كل قلب، والشقاء في كل منزل، ثم يدع صليبه النازِيَّ المعقوف يتحطم رويداً رويداً بين مطرقة الشيوعية ومنجلها بعد أن ناصبها العداء المر والهجاء الفاحش!
لقد قلنا في كلمة سابقة:(إن هذا الرجل العجيب استطاع في ست سنين ونصف أن يبني من الحديد والنار والسم والثأر والعزيمة والعصبية دولة كانت بعد صلح فرساي تتوارى من الخجل، وتتفانى من الجوع، وتتهالك من الدين، وتضع أيديها على هيكلها فلا تجد إلا شلواً لا صورة له ولا حس فيه، فأصبحت بما نفخ فيها من روح الكفاح، ووضع في أيديها من قوة السلاح، تملك على الدولة الحياة والموت، وتقضي على الأمم بالسلام أو بالحرب؛ كل ذلك فعله من غير ثورة ولا حرب فكان حريّاً أن يتبجح في آخر خطابه التاريخي المشهور بقوله: ألست حقيقاً بأن أطلب إلى التاريخ أن يعدّني في الذين حققوا أعظم ما يسمح الإنصاف بطلبه من رجل؟). نعم قلنا ذلك أيام كان هذا الرجل الشاذ قابضاً على عجلة القيادة بحزم الربان الماهر وحكمة القائد البصير. وما كنا نتوقع أن يبتليه الله بضعف الإنسان الفرد على هذا النحو المهلك والقضاء العاجل، فيدور برأسه الغرور، ويذهب بنفسه العناد، حتى لم يعد لشهواته حد تقف عنده، ولا لنزواته فرملة تحبس عليه.
هذا هو هتلر الذي أعجب به شباب الأمم بالأمس يأخذه اليوم جماح السلطان وعرام القوة، فيُلقى عامداً بقوته وبالعالم في سعير الحرب، ثم يقف في ضوء لظاها المشبوب في الأرزاق والأعلاق والأنفس وفي يديه قيثارة نيرون يعبث بأوتارها ويضحك!