للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

محمل الجد، وإلا لخرست ألسنتهم فما تنطق، وسكنت حركاتهم فما تداعب، وانطووا على أنفسهم فما يضحكون ولا يضحكون: وبذلك نفقد هذا العنصر من المرح الذي لا نكاد نجده على حقيقته إلا لديهم، والذي ننظر بدونه إلى الحياة بمنظار أسود كئيب.

ولا ريب أن المنصور لم يلز أبا دلامة بمسجده في القصر لمجرد حمله على الصلاة، وإنما أراد قبل كل شئ - كما أفهم - أن يظفر منه بين الحين والحين بشيء من نكاته الظريفة، ومداعباته اللطيفة. حتى إذا وجد أن إلزامه بالصلاة في مسجده سيرهقه من أمره عسراً حتى ليوشك أن تغيب بديهته الحاضرة، وترقد دعابته اليقظة، عاد يعفيه من ملازمة الجماعة؛ ويقال في رواية أخرى أنه أحلفه أن يصلي في مسجد قبيلته.

بيد أن دلال أبي دلامة على المنصور ولطف محله منه لم يحولا دون تطبيق حكم الشرع عليه أحياناً وإن كان هذا التطبيق مشوباً بشيء من التساهل وقابلاً للتعديل السريع: شرب أبو دلامة في بعض الحانات فسكر وانصرف وهو يميل. فلقيه العسس فأخذوه وقيل له: من أنت وما دينك؟ فقال:

ديني على دين بني العباس ... ما خُتم الطينُ على القرطاس

إني اصطحبت أربعاً بالكأس ... فقد أدار شربها برأسي

فهل بما قلت لكم من بأس؟

فأخذوه ومضوا، وخرقوا ثيابه وساجه وأتى به أبو جعفر المنصور - وكان يؤتى بكل من أخذه العسس - فحبسه مع الدجاج في بيت. فلما أفاق جعل ينادي غلامه مرة وجاريته أخرى فلا يجيبه أحد، وهو في ذلك يسمع صوت الدجاج وزقاء الديوك. فلما أكثر قال له السجان: ما شأنك؟ قال: ويلك من أنت وأين أنا؟ قال: في الحبس وأنا فلان السجان. قال: ومن حبسني قال: أمير المؤمنين. قال: ومن خرق طيلساني؟ قال: الحرس. فطلب منه أن يأتيه بدواة وقرطاس ففعل، فكتب إلى أبي جعفر:

أمير المؤمنين فدتْك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي؟

أمن صفراء صافية المزاج ... كأن شعاعها لهب السراج؟

وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت من النُطف النضاج

تهشُ لها القلوب وتشتهيها ... إذا برزت ترقرقُ في الزجاج

<<  <  ج:
ص:  >  >>